تتمثل الفرادة والغرابة في تركيبة المجتمع اللبناني بالزحام ، و المقصود بالزحام هنا ليس زحمة السير الخانقة التي كادت ان تزهق روحي صباح أمس في نفق سليم سلام، ولا تراجع منسوب الهواء النظيف بفعل السيارات وعوادمها والغاز والروائح التاتجة عنها، بل الزحام الطائفي الجاثم بثقله فوق صدورنا.
سبعة عشر أو ثمانية عشر طائفة, لاأدري، فقد فقدت التعداد من زمن بعيد، المهم أن أصحاب تلك الطوائف يتناتشون المصلحة الوطنية، حتى إن جاءك مصلح “هذا ان وجد” أمسى يوزع المراكز و المراتب عليهم وهو ينادي “بالصف يا جماعة، كل واحد جايي دوره”، كبائع الحلوى في المدرسة الذي يتصارع الطلاب على الإمساك بتلابيبه للحصول على حصة أكبر.
ناهيك عن أن كل طائفة تتحدث بلغتها، و بنسبها، و بأحقيتها في الحكم, أبسط ما يقال أن الطوائف اللبنانية تتصرف كذاك الطفل في المدرسة الذي يصارع لينال نصيباً أوفر من نصيب زملاءه.
والحال ليس أنظم بالنسبة للعلمانيين، وأنا منهم، الذين باتوا طائفة بحد ذاتها بالمناسبة، الحال هناك غريب ولايفسر، تماماً كأنانية صديقي الذي يصر منذ فترة، على إنتخاب ميشال سليمان، أو اي أحد حتى ولو من الجهة المعاكسة لرئاسة الجمهورية، ويعلل بالقول ان الحرب آتية و ان “المامي” لن تستطيع ان ترسله الى الخارج ويجزم مسبقاً انه سيموت مقهوراً في لبنان، حسناً، هو الخوف إذن؟ لا أدري، فهل سيسهم إنتخاب رئيس للجمهورية في حل الأزمة؟ بالطبع لا فالنقاش السياسي في لبنان بات شبه مستحيل، لأن آلاف المواضيع ستتشعب، وستجد حتماً من سيضع آلاف العصي في دواليب الحل، لتحقيق غايته، في مشهد سريالي من الإرتباك و الضياع، وكأن كل لبناني يتكلم لغة خاصة به مما يسبب سجالاً و “بلبالاً” لا نهاية له لأن السياسة ونجومها من الساسة أمسوا “شغلة بال” يتابع اللبناني أخبارهم بدقة ومنهم صديقي هذا.
تحاول ان تناقشه فيعلل الحل بقوة الشخصية العسكرية، العسكر الذي ما أنجب يوماً حلاً ولا كان هو الدواء، من فترة الحكم الشهابي، الى ما تلاها، ومن ثم حكم الأشاوس، و من بعدها الحرب و الميليشيات، فميشال عون رئيس لحكومة عسكرية لسنتين، و الياس الهرواي، المدني الذي حكم لبنان كواجهة لتسع سنوات فيما كان الحكم الفعلي لقائد الجيش، توجه ذاته بحكم دام سبع سنوات الحق بها تمديد قسري لثلاث سنوات، و الآن.. إن تم إنتخاب سليمان حتى لو لم يمدد له، ستكون النتيجة أكثر من نصف قرن من حكم العسكر، لم يستطع ان يقدم خلالها حكماً صالحاً، بل وتراجعنا من الديمقراطية الأولى في المنطقة الى الديكتاتورية الأخيره فيها.
الحقيقة انني حاولت أن اكتب مقالة أعمق في السياسة فلم استطع، لأني لم أتابع أي نشرة إخبارية منذ نحو إسبوع، لأجد ان ما فاتني يجعل ما سأكتب قديم العهد، و خبر بائت لا قيمة له في زمن تتسارع فيه الأحداث السياسية في لبنان بشكل غريب.
يقول نجيب حنكش المعروف عنه تأليفه للأساطير الشيقة في تفسيره لزوال جنائن بابل المعلقة احدى عجائب العالم السبع ،ان ملك بابل أحب فتاة من جميلات عصره، واحضرها الى قصره و حبسها، ولكي ينسيها جنائن قصر أبيها أمر 99 عاملاً ببناء جنائن معلقة تلامس السماء، فأغضب بتصرفه هذا الذات الإلهية التي أنزلت على العمال 99 لغة مختلفة, فما عاد احد يفهم على الآخر فكال بلبال ما بعده بلبال, حول العمار الى دمار.
صراحة، هذا التشبيه هو “شغلة بال” بحد ذاته، وخوفي ان يؤدي البلبال والسجال الى زلزال طائفي يهد لبنان, فيزول كما زالت العجائب السبع ومنها بابل وجنائنها المعلقة.
عماد بزي
اترك تعليقاً