ما طرب لرحيل الصيف، إلا الغراب والبومة، وهما عنوان الظلام والوحشة. فالغراب صفق بجناحيه يجتاز الحقول طليقاً، ناقداً حبوب الزرع، ناعقاً نعيقه المشؤوم، والبومة تنعب في الليل على مدى صوتها الكريه، ولن تجد من يصدها من أولئك المقتعدين الزاوية.
غارت نجوم الفلك، وانتشر الظلام، وطابت الخمرة مذاقاً يحيي النشاط في الأبدان الجامدة، بعدما تحجر الدم تحت وطأة البرد. وعصفت الرياح بالأغصان تهزها، كأنها تروم إقتلاعها، لا بمداعبة حنون تدغدغها بها ولا تؤذيها، وإكتئاب الحجر حزناً على فراق الشمس المنعشة، وكانت تملأه قبلات بأشعتها الوارفة. فتحييه في الشروق، وتعانقه مدى النهار كله، لتودعه في الغروب على أمل اللقاء في الصباح. أما اليوم، والخريف أطل، فلن يلقى غير أسواط من أمطارِ هوجِ تنهال بها عليه.
الخريف وجه من وجوه الحياة، والحياة تتلاقى والسنة في نصولها. لهذه ربيع، ولتلك ربيع. للحياة صيف وخريف وشتاء، وللسنة صيف وخريف وشتاء. السنة تنشأ وليداً، وتورق وتزهر وتموت. والحياة تنبثق طفلاً ثم غلاماً، فشاباً، فشيخاً يطويه الضريح، كأن كل ما في الكون على وحدة في النشء والإرتقاء، كأن الناس أوراق من شجرة تتعرى منهم تباعاً، لتجرفهم المنايا الى أعماق القبور.
الحياة بفصولها الأربعة، سنة، حتى إذا طالت دهراً، سنة ينمو فيها البرعم، ثم يكتنز، ثم يشيخ، فتلتهمه النار.
إن الخريف هو الكهولة في بحبوحتها، تأخذ فيه القوى بالتلاشي. تتفشى الغصون في الوجوه. وتلتفت العين الى الأمس لتتعزى بما ومضت به في عهد الشباب من ملتهب الهمة، وما فتنت من قلوب تولهت بها، وما غامرت فيه من استطالات تعدو في غرابتها الجنون.
الخريف بدر يحبو الى النقصان. هو بدء إنهيار التمام، ما للسنى دوام. فمن يبلغ القمة لا يسعه أن يستوى عليها طويلاً، ولا محيد له عن الزلق. فينحدر عنها كما تسلقها، وهي حال كل عائش، يطاول الجوزاء، ثم يعض التراب.
وتتسلل الحكاية، وما تنتهي يوماً، إنها حكاية حق، طلع كالربيع بهيكله الأزهر، وتلاه الصيف في البناء، واتى الخريف والشتاء ليهدمان ما شيداه، كأن الحياة مهزأة، يقوض بعضها بعضاً لتفنى كالخيال الممحو، لا لن تنته الحكاية، سنبقى وستبق حكايتنا شاهدة، ورب حصاة أبقى منها تحت طواحن الزمان.
اترك تعليقاً