أخيراً فعلتها… حسمت أموري، ووضبت “كلاكيشي” ورصفت مستقبلي وعصرت حصالتي، وحصالة المصرف طبعاً، وصنفت خياراتي ووضبتها، وعلبتها وقدمتها ماسة متألقة، أثمرت عن “نعم” ، فتفتقت قريحة القلب قراراً بالزواج، وتمخض الدماغ حاسوباً واليد حاسبةً والقلم محاسباً والجميع يبحث عن شقة تنفع لتكون مأوى للقلبين السعيدين، زواجاً أزلياً، وبساطاً سرمدياً، قراناً الى أبد الآبدين.
“صدقني يا أستاذ، إحتمال كبير ان لا تعجبك الشقة”، يقولها السمسار ويخفي خلفها إرتباكاً ظاهراً، وأنا المتعجب من أمر هذا المخبول، شقة في بيروت، غرف سبع، وكهرباء متواصلة، ومياه مؤمنة، ناهيك ان ثمنها يسيل لعاب الراكضين اللاهثين وراء سماسرة العقارات كحالي، كيف لا تعجني؟…
يسأل الرجل للمرة الأخيرة، “متى تنوي الزواج؟” واجيبه مقتضباً متشوقاً لرؤية فردوسي المنشودة، “حوالي 6 أشهر” فيعاود السؤال “طول بالك، منلاقي شقة أحسن”، مابال الرجل؟ الم يلاحظ لهفتي؟ اولا يرى يدي تفرك اختها بحركة عصبية وكأنها تتهيأ للإنقضاض على رقبته ان وقف بيني وبين الشقة التي باتت لي. أكاد اتخيل نفسي مستلاً السيف مدافعاً عن شقتي التي حسمت أمري معها قبل ان أراها لشدة ما تغنت الصحيفة في وصف ميزاتها.
يتوقف المصعد الفخم في الطابق الثامن، واتبع الرجل الكتف الى الكتف وأكاد اسبقة لأغرس في باب الشقة علمي واعلنها قفصي الذهبي والتقط الصورة التذكارية وكأنني آرمسترونغ على القمر…
يتناهى الى مسامعي صوت المذياع المرتفع من خلف باب جيراني المستقبليين، ولابأس إن كانوا مزعجين، هم في شقتهم وأنا في شقتي وبيننا حائط عازل لن يقطع حبل أفكاري إن شئت التفكير ولن يؤرق نومي إن أردت النوم…
وما كاد المفتاح يدور في القفل المذهب، حتى فتح الجار بابه ونادى على السمسار السبعيني بإسمه دون أي حياء فيهرع اليه وكأنه في حضرة الملكوت، فيسأله عني بصوت جهوري “مين أبو شعر؟، مستأجر أم شارِ؟ حكيت أبو حيدر؟” ويحدجني بنظرة مريبة ويختفي وراء بابه ليصدح صوت المذياع من جديد “نصرك هز الدني… شعبك ما بينحني”..
“يا إستاذ، قبل ان ترى الشقة عليك ان تزور أبو حيدر لنأخذ الموافقة منه” وقبل ان تصدر مني ادنى حركة وقبل ان اغرس ظافري في عنق السمسار الأرعن، يحضر أبو حيدر من لا مكان وكأنه شق الحائط وخرج منه، ويسأل السمسار الذي يكاد ان ينخلع قلبه من صدره من شدة الخفقان عن إستمارة توجب عليه ان يقدمها فيها كل بياناتي إسوة بباقي السكان، لدواع أمنية…
طبعاً، الباطن مفهوم، أمن المقاومة في الجنوب يستدعي التحقق من هويات السكان في قلب بيروت، وسلاحها المقدس هو في خطر والمعركة مع إسرائيل تتوقف على من يساكن أبو حيدر وأبو مذياع، لا بل ومستقبل الصراع العربي الإسرائيلي برمته يترنح معلقاً بشعرة معاوية التي ستقطع بمجرد ان يساكن أبو حيدر من لا يستسيغ في العاصمة التي أصبحت مباحة له، وقضمها الى سلطانه بعد حربة الإرهابية الصغيرة، عفواً عمليته الجراحية البسيطة…
الا يعلم أبو حيدر اني اخترت الإنتقال الى أبعد نقطة لا يصل إليها نفوذه كي لا التقي به، ولا أصَبح عليه، ولا أمسيه، ولا أسمع صوته و لا حتى صوت مذياعه الاصم العالق على الموجة FM 91.7 لا يتحرك عنها قيد أنملة.
يبدو ان أبو حيدر بما يمثل قد إنتشر وتغلغل و “تمرتع” و “تبرطع” في بيروت ومحيطها بفعل سلاحه المقدس الذي ما اتت أدبيات 7 أيار إلا لتزيده شرفاً وقدسية لقطعه اليد الأميريكية – الصهيونية- الإمبريالية- الحاقدة -الغاشمة التي حاولت المساس بشبكات المقاومة.
لست طرفاً سياسياً بالتأكيد، ولست من دعاة الخلاف، لا بل انا من دعاة الحوار، لكن ماذا لو إعتبر أبو حيدر يوماً ان “قسطل المياه” المشترك بيننا مثلاً هو جزء من الوزاني، وان بهو المبنى هو جزء لا يتجزأ من مزارع شبعا، وان جهاز “الساتلايت” خاصتي يشوش على إذاعاته المقاومة حصراً، و ان مذياعي بفيروزه و لهجاته المتعددة هو بدعة غربية لتخريب عقول صغار المقاومين الذي يفقسهم على عجل وبلا إنقطاع حتى كادوا مجتمعين ان يشكلوا فريقاً لكرة القدم؟
ماذا سيكون مصيري؟ هل ستقطع رقبتي مثلاً ليتغنوا بها كغنيمة حرب؟ او سأخسر بضعة من أسناني كصديقي فريد؟ أو تكسر رقبتي كعمر حرقوص؟…
لا يا سمسار النحس، ولا وألف لا يا أبو حيدر، هنيئاً لك المبنى البيروتي الذي والآن فقط عرفت سبب ثمنه البخس مقارنة بفخامته، فالسكان هجروا منذ ان تمددت ومعك أدبياتك العسكرية الى مبناهم وإشتريت لنفسك ولأزلامك طبقاته من المال الطاهر الشريف حلالاً زلالاً عليك…
أغادر المبنى مثقلاً مترنحا يسبقني السمسار على عجل، وأتبعه وكأنني دانتي وراء فيرجيل في دنيا الأموات، أعد الطوابق الى أسفل مستعجلاً المصعد حتى اعود الى النور.
عذراً حبيبتي، فمن الغد وصاعداً سأبحث لنا ولو عن خربة صغيرة، بعيدة كل البعد عن أبو حيدر، أحيلها لك جنة، خير من ألف فردوس بحمى من سرق من الله حتى حزبه…
اترك تعليقاً