(يرجى قراءة التدوينة كاملة قبل تنسيق سمفونية السباب والقدح والذم، وشكراً لتعاونكم)
نشرتُ منذ أيام وفور شيوع خبر الهجوم الإسرائيلي على القافلة المتجهة الى غزة، نشرت تعليقاً أقام الدنيا ولم يقعدها، فإنبرت الألسنة تقصف بالسباب واللعنات وتهد وترعد بالإتهامات ومنها من بدأ بالوعيد دون أن يخطر على بال أحد ان يقرأ ولو قليلاً بين سطور ما كتبت فإعماهم التعصب البغيض، وعلى عادة العربان، إنبروا بالروح وبالدم للدفاع عن القافلة وكأنني كنت بموقع الهجوم عليها! ، إنها الروح السوداء ذاتها التي سادت ولاتزال تسود التفكير العربي المتحجر في قبول الإنتقاد الذاتي او النقد البناء.
—
تضمن التعليق خمس عبارات واضحة كالشمس “أقلها وقعاً” كان عبارة “البربرية الإسرائيلية” لم تشفع لي ولا لتعليقي، لم نستمع؟ ولم نقرأ دون تعصب؟ فقد تضمن التعليق نقداً صريحاً لنشطاء السفن، ممنوع الإنتقاد، هؤلاء منزلون، قديسين منزهون، لا يخطؤن !!! وبات من الضرورة الهجوم على كاتب التعليق نصرة للقضية المركزية فلنسب جميعاً وجماعةً العميل اللعين الذي تجرأ على القول “هذا خطأ”، عذراً أيها الحمقى، لست أنا بوارد الدفاع عن إسرائيل ولا بوارد تبرير جريمة قتل النشطاء، إستمعوا يا أبناء العلم والجامعات، علكم ولو لمرة تخرجون من القمقم وتدركون أن في الحياة ما هو أكثر من تصلب الموقف، والدفاع الأعمى…
—
ورد في التعليق بعد إدانة التحرك الإسرائيلي طبعاً، ورد سطر واحد ينتقد طريقة تحرك النشطاء، فكل ما قلته هو ان طبيعة تحركهم كانت خاطئة، وذلك من وجهة نظر إحترافية ليس إلا، ففي عالم النشطاء، وخاصة نشطاء السلام قاعدة ذهبية لا تمس، هي أكثر من منزلة بالنسبة لناشط سلام، وهي قواعد تحرك المواجهة اللاعنفية وبالإنجليزية هي Non-Violent Direct Action وهي كما أسلفت عبارة عن قواعد لمواجهة العنف بطريقة سلمية تمنع المهاجم من إستعمال العنف المضاد وتشل حركته وترغمه على الإنهماك بتقدير الموقف عوضاً عن ان ترعبه وتدفعه الى مزيد من العنف. قواعد الـ NVDA تستعملها كافة المنظمات ذات التحركات السلمية ضد الحكومات والأجهزة العسكرية، وهذه التحركات قد أثبتت قدرتها على إحباط محاولات الحكومات لإستعمال العنف ضد النشطاء.
—
أولى هذه القواعد هي تقدير الموقف، وتجنب المواجهة الدموية إن كانت ستحصل، حسناً، من منا كان عنده أدنى شك بأن البحرية الإسرائيلية ستعترض السفينة مرمرة بعنف لا مسبوق؟ مجنون وغبي من ظن عكس ذلك، فالبحرية الإسرائيلية تتصرف بعنف شديد عند تدخلها دون سابق إنذار، فكيف ستتصرف إن كانت قد أنذرت أنها ستستعمل الرصاص الحي ومناورات الإنزال الحي مسبقاً ؟ خاصة مع تاريخ إسرائيل الطويل في الهجوم لا بل وقتل نشطاء السلام بدم بارد؟
—
بصفتي مدرباً مجازاً في تدريب النشطاء على إستخدام اللاعنف NVDA كوسيلة مواجهة، هذا حقي الكامل في ان أصنف قرار مرمرة والنشطاء بالإستمرار (في حال دخلوا المياه الإقليمية) بانه قرار غبي ولا مسؤول (وهذا قبل الدخول في تفاصيل الهمجية الإسرائيلية مجدداً في الهجوم على نشطاء داخل المياه الدولية).
—
ثم، والأهم، فور حصول الإنزال الإسرائيلي على متن السفن، شاهدنا جميعاً كيف تصرف النشطاء، فضربوا الجنود المغيرين بالعصي والحجارة و الكراسي، وهذا سوء تقدير أكبر بكثير لقواعد التحرك اللاعنفي NVDA، فالجندي الهابط على سطح السفينة بعقلية القتل المباشر، لا بد وان يطلق النار فور تعرضه لأدنى تهديد، والكلام هنا عن اي جندي، فكيف بالجندي الإسرائيلي الذي تلقى على ما يبدو أمراً مباشراً بفتح النار على النشطاء في حال المقاومة؟
—
تنص قواعد المواجهة اللاعنفية (وهنا بإحترافية مجدداً) NVDA على ان الناشط في هذا الوضع عليه ان يتصرف بمناورة إسمها في عالم النشطاء “كيس البطاطا” Potato Sack وهي عبارة عن مناورة سريعة يتظاهر الناشط فيها إنه تحت سيطرة المهاجم ويتظاهر بالخضوع وبالإستسلام فيما يلزم المهاجم ان يتقدم للسيطرة عليه، فيما يقوم المهاجم بإرخاء كافة عضلات جسمه وكأنه كتلة لحمية واحدة فيتضاعف وزنه خمس مرات بالنسبة للمهاجم الذي سينشغل بالسيطرة عليه ونقله من المكان وإزاحته من الطريق دون ان يطلق النار عليه فهو على تماس مباشر معه وليس بوضعية تسمح له أصلاً بإطلاق النار وهو في إلتحام مباشر، وتتطلب هذه العملية من الجندي المهاجم جهداً بدنياً يعادل صعود خمسة طوابق جرياً وذلك لكل ناشط ينفذ المناورة، فكيف إن نفذها أربعة مثلاً؟ كما انها تهدر خمسة دقائق من وقت المهاجم، هي كفيلة أولاً بضياع عنصر المفاجأة، وبالإيحاء للمهاجم انه المسيطر، فيما هو المسيطر عليه، ناهيك عن انها تمنح النشطاء الأخرين خمسة دقائق إضافية للإستعداد وللتفكير بطريقة أكثر عقلانية وتجنب السماح للمغير بإطلاق النار حتى ولو في هذه الحالة (مع الأمر المباشر بقتل النشطاء).
هنا صورة لبعض النشطاء يوقفون تقدم بلدوزر (جرافة) عبر تقنيات التحرك اللاعنفي
(لاحظوا كيف وانه بإستعمال الجنازير الحديدية وثقوا أنفسهم الى البلدوزر بحيث شلوا حركتها)
—
في معظم الأحوال، إستعمال هذه المناورة البسيطة من قبل النشطاء يستدعي حضور ما بين إثنين الى أربعة جنود لينهمكوا في التعامل مع ناشط واحد بسبب عدم قدرة جندي واحد على التعامل مع الناشط الذي يبدو مستسلماً فيما هو يسيطر تمام السيطرة على حركة الجندي كما يبدو في الصور أدناه.
—
فلننظر الى ما حدث على متن مرمرة
—
في الفيديو نلاحظ كيف أن النشطاء خرقوا كل هذه القواعد، مما أدى الى تفاقم الموقف، ولو كان للإسرائيليين أوامر لإطلاق النار على خمسة من النشطاء بدم بارد، لقتلوا في هذه الحالة المزيد والمزيد، لأن الجندي وبغريزية تامة، بغض النظر عن أوامره سيطلق النار اكثر وأكثر لإستشعاره الخطر، فهل إستعمال العنف المقابل (ولو دون إستعمال السلاح) سيمنع الإسرائيليين من السيطرة على السفينة؟ بالطبع لا، وهم من لم يثنهم القانون الدولي ووجود السفينة في مياه دولية عن إرتكاب مجزرة في أعالي البحار!
—
تستخدم مناورات التحرك السلمي اللاعنفي NVDA في كافة بلاد العالم من قبل كافة نشطاء السلام، فهي أولاً تحمي الناشط، وتشل المهاجم وتمنعه من التصرف بهمجية حتى لو كانت اوامرة تقضي بقتل النشطاء بدم بارد كما كان الحال على السفينة مرمرة.
—
أبرز من يستخدم هذه التقنيات حول العالم هي منظمات التيبت وحركة الرهبان ونشطاء العفو الدولية، ومنظمة غرينبيس البيئية، كما أنه ليس من سبيل ولا بديل آخر لنشطاء السلام حول العالم سوى إستعمال هذه التقنيات التي تتطلب تدريباً مكثفاً كان نادر الوجود بين المتواجدين على متن سفن القافلة
-يي-
—
كما ان قواعد التحرك اللاعنفي NVDA تشتمل على الكثير والكثير من المناورات التي لن تتسع هذه التدوينة لها.
—
لن اتكلم هنا عن الشق الإسرائيلي، فالتصرف الإسرائيلي معروف ولم يخرج أبداً عن سياق الهمجية الإسرائيلية في التعاطي مع النشطاء، فالصراع العربي الإسرائيلي والموقف منه شيء، وفتح النار على النشطاء حتى لو تسلحوا بسكاكين المطبخ كما قال الإسرائيليين هو شيء آخر، فمع خطأ النشطاء في إختيار إسلوب المواجهة، لا يجيز ولا يفسر ذلك في أي حال من الأحوال الإستعمال المفرط للقوة والقتل من الجانب الإسرائيلي لنشطاء مفترض انهم في تحرك سلمي.
—
برأيي، الخطأ أيضاً وقع من قبل المنظمين الذين إختاروا النشطاء بطريقة غريبة، فبدلاً عن النشطاء الشباب المدربين، إختاروا المشاركين بتنوع جنسياتهم وتوجهاتهم، وهذا أمر ليس بالسليم من ناحية التخطيط لمواجهة لاعنفية، فالمفترض ان المشاركين في قافلة سلام يجب ان يتم إنتقائهم بحذر، للتأكد من ان أحداً لن يشعل فتيل مواجهة غير ضرورية قد تبرر ولو للرأي العالم الإسرائيلي وحده التصرف الهمجي للقوات الإسرائيلية على متن السفينة. فمنظمات التحرك اللاعنفي تختار ما يسمى فريق التدخل ACTION TEAM بناء على معايير ضبط النفس والقدرة على شل حركة المهاجم والتفكير السليم والمتروي لا المندفع ولا المتحمس ولا المدفوع بحوافز أخرى كالدين والعرقية.
—
من الجيد تقبل الإنتقاد من وجهة نظر إحترافية ليس إلا، والمقصود من التدوينة أعلاه نقد للنشطاء، وليس تبريراً للمجزرة الإسرائيلية بأي شكل من الأشكال.
—
من المؤسف حقاً ان بعض الأصدقاء ممن يصفون انفسهم بالنشطاء في مجتمعاتهم المدنية غلبوا شعورهم وسعارهم القومجي على محاولات التحدث بعقلانية، وتقديم نقد قد يسهم في المرحلة المقبلة في إيصال شحنة المساعدات الى غزة، لأنه من الواضح ان طريقتهم لم تنجح في إيصال المعونة الى مستحقيها، بل وسقط منهم 16 شهيداً كانوا من الممكن ان يعيدوا الكرة في المستقبل بتخطيط أكثر عقلانية فالمتضرر الأول من المواجهة غير المخططة هم سكان غزة، والمستفيد الاكبر هو إسرائيل التي صادرت شحنات بقيمة ملايين الدولارات ستسرق معظمها وتدخل القليل والقليل منها الى غزة وبإسمها هي، لتلبس ثوب إنسانية مصطنع، والأدهى أنها لن تنفق قرشاً على شراءها فهي بضائع دفع ثمنها النشطاء وصودرت منهم، ثم يأتي مستفيد آخر، هو حركة حماس التي ستجعل من موت نشطاء السلام قميص عثمان جديد تبرر فيه تشددها وإرهابها لسكان غزة الذين باتوا بين مطرقة الإسرائيلي وسندان التعصب الإسلامي، فعليكم وعلى غزة السلام…
—
من المفيد أولاً، ان تقبلوا النقد ايها العربان، لتفكروا فيه بعقلانية، ولو لمرة وحيدة، ثم ولترصوا الصفوف لمحاسبة إسرائيل على هذه الجريمة، قبل التفكير بدفع المزيد من نشطاء السلام الى حتفهم، فنحن بحاجة اليهم لجولة جديدة، مخطط لها بإحترافية.
—
لقراءة المزيد عن NVDA وفلسفتها وتاريخها هنا بالرغم من ان المقالة ليست دقيقة لكنها تعطي فكرة جيدة عن التحرك السلمي اللاعنفي
—
—
اترك تعليقاً