منذ فترة وأنا في صراع مع الذات حول موضوع “قديم”، عقدة “بعيد عنكم” ، العقدة تتجلى في محاولتي التغلب على مخاوفي وإستعادة زمام الامور خلف مقود السيارة، عندي عقدة مزمنة مع السيارات كنت قد شرحتا سابقاً تحرمني من إقتناء سيارتي الخاصة والتمتع “بالفشخرة” و “الحِزك – مِزك” على الطريق إما للتنقل من والى مكتبي او ببساطة للقاء الأصدقاء و “سيسرة” مشاغلي وأموري الخاصة…
—
بدون طول سيرة، كوني شخص لا يحبذ الإختلاط العشوائي بالآخرين، خاصة المتطفلين، إخترت بكل جبن “التاكسي” كحل وسطي ما بين السرفيس وعجقته وبهدلته، وبين التغلب على مخاوفي وقيادة سيارتي الخاصة.
—
رحلة التاكسي هادئة، ، ولا تضطر فيها الى الإستماع لسمفونية النق أو “الإخخخخخ … تفو” التي يطلقها السائق مضيفاً اليها كل ما تستوعبه حنجرته من بصاق وسوائل مخاطية، ولست حتى مضطراَ الى مجاملته بالحديث عندما لا ترغب في ذلك، خاصة إن إنطلق بالحديث عن همومه ومصائبه، وانت “اللي فيك مكفيك، عندك وحدك هموم تكفي بلد بأكملها” ولو فتحت معملاً لتعليبها وتصديرها لدخلت التاريخ متخطياً إمبراطوريات كارلوس سليم وبيل غايتس و الوليد بن طلال…
—
سائق التاكسي هادىء، يلتزم الصمت، ولا ينخرط في الحديث إلا إن أردت انت ذلك، طبعاً بحكم عمله وإتباعاً للقواعد التي تسنها الشركة التي يعمل لحسابها..
—
لست برجوازياً ولااحسب نفسي مفكراً عظيماً ولا أنا شخص متعالِ يضرب أنفه سحاب السماء، ولست بالتأكيد من المصابين “بالميغالومانيا” أنا ببساطة شديدة شخص يربو الى السكينة ويقدسها، أحب ان يكون لي مساحتي الخاصة، فأكتفي بالكلام حين يكون وقت الكلام، والتزم الصمت على ان أرمي المكان برشقات التفاهة، فلسفتي الخاصة في الحياة تقوم على ركوني الى نفسي في صفاء غريب استمد منها قوتي و حلولي للأزمات والمعضلات، فما ان تضعني رغماً عني في آتون عشوائي من “الهات” و “خود” حتى اضيع و اصاب بهلوسات “التخبيص”.
—
لسنوات خلت، قامت مقالاتي في الصحف والمجلات المطبوعة منها والإلكترونية، على فلسفة التاكسي الذي من نافذته ترى الناس مجريدن وعراة على حقيقتهم، فأستمد من تآملات النافذة مادة “لكيبوردي” هذا لأنني إعتزلت الكتابة بقلم الحبر منذ زمن طويل.
—
إنه الضجر… قاتل الله الضجر، حملني “أخو الـشرموطة” على ان اقوم بنزهة بالسرفيس، علني أستطيع أخيراً الإنتهاء من إعداد حلقة مسجلة للراديو متجاوزاً قريحتي المسدودة، و مستلهماً من أحاديث الناس مادة ما… فعلتها، وإمتطيت سيارة تاكسي مرسيديس متهالكة “تموج وتهوج كالثور المذبوح” بحسب وصف معلقات الأندلس في قصر الحمراء بأسبانيا…
—
قصدت التوجه الى الأماكن الأكثر إزدحاماً، متعمداُ البقاء في السيارة لأطول فترة ممكنة، حتى يتسنى لي مناغشة السائق بأحاديث عشوائية ينضم اليها الركاب الصاعدين والهابطين على طول الطريق…
—
تماماً كما كنت قد توقعت سابقاُ، يبدأ حديث السرفيس عن غلاء المعيشة وسعر البنزين و”النق” على الفساد وسوء الإدارة والمحسوبيات ولعن الزعيم الفلاني والتمجيد بآخر، بحسب المنطقة، فيما لم يترك السائق بمساندة الركاب عضواً تناسلياً، ذكورياً كان أم أنثوياً إلا وإستعانوا به وأقحموه في معرض الحديث السياسي الشعبي بإمتياز…
ننتقل من منطقة الى أخرى، وانا اتعمد الهبوط والصعود من سرفيس الى آخر طمعاً بالمزيد من الخبريات اللبنانية المتصالحة مع الماضي والحاضر متخطية الحواجز الزمنية والجغرافية والطائفية…
في السرفيس شابان صعدا للتو، يفكران بصوت عالِ بمشروع يدر عليهما الربح السريع، فيتشاركان والسائق قدح وذم المسؤولين والوزراء والنواب (متناسين انهم من ينتخبهم ذاتهم في كل مناسبة) ويلعنان الشهادات “وربها” ويحلمون ببلد “فيه دولة” على حد تعبيرهما حرفياً ويلعنون نفسية اللبناني “الوسخة” (والكلام حرفياً على حد تعبيرهم).
يجنح السائق بحركة فجائية يمنة ويساراً، متفادياً سرفيس آخر، تاركاً له إصبع وسطى علامة على انه تجاوزه وتخطاه ومنعه من سلب الرزق من فم عياله، فالسرفيس الآخر “نمرة بيضاء” اي انه غشاش، زور لوحة السيارة “ليتكّس عليها”…
الشابان في المقعد الخلفي يستعيدان توازنهما من جراء المناورة، ويسألان السائق عن كيفية تزوير لوحة السيارة “النمرة” فيرشدهما، ويضيف ان تكلفة اللوحة المزورة عشرة دولارات فقط، والسائقين يتهافتون لشراءها، فيستنفر الإثنان، و”تخرط” الفكرة برأسيهما، تناسيا كل ما قالوه للتو عن المواطنة الصالحة والإنصياع للقانون، ويسأل أحدهما الآخر بلهفة “أرخميدس” وصرخته وجدتها…”تيجي نعمل واحد؟” ويتنبه لسوء نية صاحبه ولعبوس السائق، فيضيف مفسراً… “يعني نعمل مكبس نمر ونبيعها” فيضيف صاحبه الذي بدأ تلقائياً بحساب الربح والخسارة “عشرة دولار للوحة، إذا قلنا… بخمسة باليوم، يعني حوالي خمسين دولار يومية”…
—
هكذا وبدون مقدمات، إفتتح الإثنان مصنعاُ لخرق القانون….
–
قد نعتب كثيراً على الدولة اللبنانية وأجهزتها المهترئة، ونرميها بأبشع الأوصاف، ونجعل من “النق” مادة للتعبير عن السخط من آداء الحكومات المتعاقبة (وانا على رأس المنتقدين والشتامين)، لكن يا لصحة ما قيل ان الله (إن وجد) لا يغير ما في قوم، ما لم يغيروا هم ما في أنفسهم…
–
قد لا نصل أبداً الى التغيير إن استمرينا نحن اللبنانيين بالتعاطي بعقلية الربح السريع والغش والتحايل عوضاً عن العمل على تغيير ما في أنفسنا، فننصاع للقانون يوم يطبق، إن طُبق يوماً…
–
iii-
—
اترك تعليقاً