مما لاشك فيه ان اننا كلبنانيين من المستقلين، غير المسيسين على صراع مرير مع أشياء ثلاث، أولاً الصراع البارد مع الطبقة السياسية “التنحة” التي تهيمن “بثقل دمها” الطائفي والمذهبي والأمني على الساحة السياسية اللبنانية وهي دون أدنى شك غير جديرة بذلك، ثانياً، صراع طويل مع حالة الفلتان المدقع التي تنسحب على المشهد اللبناني ثالوثاً من إنعدام الأمن والفساد والمحسوبيات والأهم حالة من الغليان الإجتماعي وإرتفاع جنوني (مسيس) في أسعار المواد الغذائية الأمر الذي يضمن بدوره إخضاع وإسكات المواطنين الملتجئين الى الساسة “لازقين بطيزن” لأسباب طائفية وفئوية ومذهبية إما بداعي الخوف من اللبناني الآخر، أو لأسباب محض معيشية لتأمين “لقمة الأولاد” وإلا ماتت العائلة من فرط الجوع، الأمر الأخير وهو متلازمة “فيروس نقص الحكمة وخنق الحريات” المتفشية بين النواب والوزراء ومعهم رئيس البروتوكولات والمناسبات الرسمية وفريقه الذي أتى به الى طاولة الحكم الى جانب الآذاريين بشقيهما الـ 8 والـ 14، ويا حبذا لو قام الآذاريين معاً بتأجيل تجمعاتهما الشعبية الشهيرة لشهر أيار، فكنا اعطيناهما أسم “الأياريين” لأنه أنسب لهم، فيما يحتفظ شهر آذار بربيعه وجماله…
–
إن كنا جميعاً قد مللنا من “الصريخ والعييط” بما خص البندان الأول والثاني اي هيمنة الطبقة السياسية والحالة الإقتصادية المتردية، فلا بد لنا لأن نتوقف ونعطي الأهمية اللازمة للموضوع الثالث المختص بالحريات العامة والخاصة، فمن الممكن ان نعيش في ظل هيمنة سياسية مفروضة بحكم تركيبة البلد الطائفية، ومن الممكن ان نستمر بمحاربة الوضع الإقتصادي، لكن من غير الممكن القبول بالمساس بآخر حصن من حصون الحقوق المهدورة للمواطن اللبناني، اي حريته وهامش تعبيره عن نفسه لأن المساس بهذه الأخيرة خطيئة لا تغتفر، وأمر يقود الى الإنفجار، وقد أعذر من أنذر…
–
في صلب الكلام عن قمع الحريات، لا على هامشه، استرجع سلسلة التدوينات المتعلقة بمنع فيلم شو صار و ما تلاها، وما سبب كتابة هذه السطور، القصة بدأت مع قيام الامن العام اللبناني ممثلاً بهيئاته الرقابية بمنع عرض فيلم شو صار مرتين على هامش مهرجانات ثقافية، في المرة الأولى منع الفيلم، وفي المرة الثانية تم الطلب من مخرجه ديغول عيد “قص” بعض المشاهد في إعتداء سافر على قيم الحريات. حكاية فيلم شو صار ليست حكاية إبريق الزيت، وليس شو صار الفيلم الممنوع الوحيد فقد سبقه كثير من الأفلام، وسيتبعه الكثير من الأفلام ايضاً، إنما الأمر يستأهل السؤال، حقاً، شو صار؟
–
يحكي فيلم شو صار حكاية ديغول عيد الصبي الذي شهد مجزرة ذهب ضحيتها والدته إضافة الى 11 شخصاً كانوا في منزله خلال الحرب الأهلية اللبناني كرد على مجزرة طالت منطقة أخرى، بعد مضي السنوات يعود ديغول عيد المخرج الى لبنان بسؤال عن “شو صار؟” تلك الليلة، ليلتقي بقاتل والدته ويسأله عن الموضوع، ديغول عيد يسامح في فيلمه قاتل والدته، مجتنباً اي منطق يدعو للإنتقام حاملاً رسالة سامية وإنسانية محضة، من حقه ان يعرف “شو صار” ليعيش حياته بسلام، الفيلم الذي لا يندرج ضمن خانة التذكير بالماضي الأليم بل في خانة البحث عن الحقيقة يعبر عن حق إنساني، وعن منطق بناء، وعدالة غابت عن لبنان وتاريخه، ديغول عيد لم يدعو الى الإنتقام، بل تسامح ودعى الى التسامح…
–
قبل الخوض في الوثائق والتفاصيل والمراسلات التي سأكشف عنها، من حقي هنا كمواطن ان أسأل، لماذا الإستنساب في العدالة والحقيقة، وكيف لإغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري يستأهل محكمة دولية (وأنا معها نظراً لضعف ووهن القضاء اللبناني) ان يحظى بمحكمة دولية، فيما فقط السؤال عن “شو صار” ذات ليلة سوداء من ليالي الحرب اللبناني يجب ان يدفن طي الكتمان؟!
–
حجة الأمن العام اللبناني تقول بأن الفيلم ما حرفيته ” ان الفيلم ممنوع من العرض لأنه يذكر بالماضي الأليم” هنا المفارقة الكبرى، والسؤال لماذا؟ كنت في تدوينة سابقة قد سألت “هل من لبناني لا يعرف من قتل ومن ذبح ومن شارك في الحرب الأهلية، ثم أجبت نفسي، لا فكلنا يعرف” إتضح بعد التفكير العميق ان اللبنانيين إما نسوا، وإما تناسوا، وإما لا يعرفون حقاً، وهو الجواب الأرجح، كنت مخطئاً وتبين فعلاً ان اللبنانيين لا يذكرون ولا يعرفون تاريخ الصراعات المسلحة على كثرتها خلال الحرب! كما تبين ان التعتيم على مرحلة الحرب لا يخدم سوى أمراء تلك الحرب واسيادها الذين لايزالون يتربعون “لاكين إجر على إجر” فوق صدور اللبنانيين جميعاً، هؤلاء من لا يريد للناس ان تعرف “شو صار”بهذه البساطة، لأن الناس إن عرفت وفهمت، لابد ان تستتبع المعرفة بما يعرف بالعدالة الإنتقالية المفقودة منذ زمن.
–
غموض مفهوم العدالة الإنتقالية عنا نحن اللبنانيين مرده الى الغياب الكامل لهذه العملية التي لابد وان تعقب الحرب الأهلية، اي حرب أهلية، واي صراع مسلح بين شرائح الوطن الواحد، إن مفهوم العدالة الإنتقالية في العلوم السياسية بطريقة مبسطة يقول بأنها فلسفة ومنهجية، هدفها أن تعالج ماضي انتهاكات جسيمة، ومساعدة الشعوب على الإنتقال بشكل مباشر وسلمي وغير عنيف إلى الديمقراطية، الأمر الذي لم يحصل في لبنان، فقد نام الوطن على وقع القذائف، ليستفيق في اليوم التالي على إتفاق الطائف، الإتفاق الذي بالرغم من اهميته لأنه أوقف عملياً الحرب الأهلية اللبنانية إلا انه لم يصالح المجتمع مع نفسه ومع ماضيه، وما شهدناه في السنوات القليلة الماضية، وما نشهده حتى الساعة ليس إلا نتيجة مباشرة لغياب هذه المصالحة الحقيقية الناتجة عن المصارحة، ناهيك عن محكمة الشعب التي تحكم وتحمل كل طرف مسؤوليته، العدالة الإنتقالية مجدداً بمفهومها في العلوم السياسية لا تقوم على الثأر والانتقام، وهدفها الوصول إلى حل وسط بين الحاكم والمحكوم، بين مرتكب الإنتهاكات وضحاياه، في محاولة لمراجعة ما حصل، و الخروج الاستراتيجي منه، لإعادة بناء وطن للمستقبل يسع الجميع، قوامه احترام حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون. العدالة الإنتقالية لن تنصب مشنقة سمير جعجع، ولا نبيه بري، ولا عاصم قانصوه ولاميشال عون، ولا التنظيمات الفلسطينية وملحقاتها اليسارية…لن تقتص منهم، بل ستحمل كل طرف مسؤوليته عما جرى خلال تلك الحرب، هي وبلغة “السرفيس” ان تضع كل شيء على الطاولة، وبلغة الدين إعتراف الى كاهن الرعية، وبلغة الوطن حل كامل وشامل “لشو صار”.
–
كثيرة هي البلدان التي خاضت تجارب العدالة الإنتقالية واشكالها المختلفة لتخلص اليوم الى مجتمع راق، متحضر، واع، يدرك جيداً قيمة الإستفادة من عِبر التاريخ، لا “طمطمة” ما حدث والتستر عليه، من هذه الدول رواندا مثلاً، او جنوب افريقيا والتجرية الإنتقالية الرائدة التي اعادتها الى مصاف الأمم الراقية بعد إنتفاء نظام التفرقة العنصرية، إن أحداث لبنان بسوءها وحسنها، بطيبتها وخبثها، بعدالتها وظلمها، هي جزء لا يتجزأ من التاريخ اللبناني، تاريخ اكبر بكثير من القومية اللبنانية التي آمنت بها “بالزمنات”، تاريخ أكبر من الأرزة المعمرة، أكبر من هياكل بعلبك، من صخرة الروشة وكأس العرق والفتوش والحمص والفلافل..
–
إستنتاج واضح لا ريب فيه، “شو صار” فيلم يمثل العدالة الإنتقالية بأبهى صورها الحضارية، مرة جديدة تنهار هذه القيم امام سكوت المواطن وجهله، امام “تلهي” النشطاء بأمور وقضايا ليست لهم، وبالنتيجة ذُبحت العدالة الإنتقالية وغيرها على عتبة أهل الدم، وعلى يد وزير شاب، كان من أهل المجتمع المدني، واضحى من أهل البيت…
–
شو صار ؟
–
كان لابد من الإستفاضة فيما سبق قبل كشف المستندات والتفاصيل، لأنني لا بل لأننا مخنوقين… في بلد نسف الحريات وغلبة الجهالة على المعرفة، منع فيلم، وللتاريخ، إليكم مستندات ومراسلات اتحمل وحدي مسؤولية وتبعات نشرها.
–
لدى منع فيلم شو صار قمت بنشر عدد من التدوينات والفيديوهات حول الموضوع، تلاها مواجهة مباشرة مع الوزير زياد بارود على هامش تظاهرة مناهضة العنصرية في بيروت أمام وزارة الداخلية ضمن سلسلة من الحراك مع بعض الناشطين في لبنان وخارجه. (راجع هنا)
–
بتاريخ السبت 16 تشرين الأول تلقيت إتصالاً هاتفياً من الوزير زياد بارود تعهد فيها وللمرة الرابعة بأن موقفه الشخصي يقضي بعدم منع الفليم، وبعد نقاش مع الوزير اصر خلاله على ان الفيلم ليس ممنوعاً إتفقنا على ان ازود الوزير بوثائق تثبت ان الفيلم ممنوع، وكان ذلك في نص رسالة سلمتها الى أمين سر الوزير شخصياً في مبنى الوزارة بتاريخ 18 تشرين الأول…
قبل ذلك أذكر بالفيديو الذي سبق وان نشرته هنا، قال فيه الوزير حرفياً، “أنا على تواصل مع الأمن العام، توجيهاتي واضحة جداً، ممنوع ينمنع الفيلم، في أوضح من هيك؟ يا خيي شو… كيف”
–
–
–
نسخة طبق الأصل عن الرسالة التي سلمت الى الوزير بارود، لكن بعدما أرسلها بدوره الى مدير عام الأمن العام اللواء الركن وفيق جزيني، للغاية ختمت الورقة، ودمغت بالرقم المتسلسل 18391 من البريد الوارد الداخلي الخاص، وهذه الوثيقة نسخة منها.
التصرف أعلاه يندرج مباشرة في خانة عدم إستطاعة الوزير القيام باي خطوة، فقد احال الورقة الى مدير عام الأمن العام ليتحول الى وزير توقيعات وموظف، فشل الوزير بارود وسقط مجدداً في الخطأ ذاته التي لا ينفك يكرره، وينفع هنا إستحضار النقاش الحاد الذي دار بينه وبين النائب “المستقبلي” عمار حوري عشية الإنتخابات البلدية، يومها قال الوزير ما حرفيته “أنا لست مديراً عاماً، أنا وزير”…
–
–
–
–
نص رسالة مدير عام الأمن العام اللواء الركن وفيق جزيني الى الوزير بارود، مجدداً من بريد المراسلات الخاص بالوزارة.
في رسالة اللواء جزيني الى الوزير بارود يرد “كتابكم رقم 18391” وهي في الحقيقة رسالتي الى الوزير بارور المشار اليها بالرقم البريدي المتسلسل كما يبين بريد الوزارة الخاص في المستندات اعلاه
وفي هذه الرسالة عدد من النقاط..
أولاً الوزير بارود نجح في دفع سعد الحريري الى تشكيل لجنة وزارية للبت في الموضوع واللجنة لابد من ان تكون نسخة عن الحكومة اي تضم الأطراف كافة إضافة الى الأمن العام، مما جعل منع الفيلم مسؤولية مشتركة بين الجميع “فضاع الشنكاش” ولم يعد الوزير بارود وحده في موقع شبهة منع الفيلم
ثانياً: الرد الصريح بموجب قرار اللجنة وما فيه من “غمر وحبكة مخفية” (يمنع عرض الشريط أمام الجمهور في اي وسيلة مرئية،…) راجع المستند اعلاه بالحجم الكامل
–
–
مجدداً رد الوزير زياد بارود على اللواء جزيني، وفيها “.. وبعد الإطلاع نعيد اليكم كامل الملف مع الموافقة على إقتراحكم “(اي منع الفيلم)…، نعم وافق الوزير بارود على منع الفيلم بعد ان كرر بأنه لم يسمح بمنعه
–
وأخيراً .. منع الفيلم رسمياً، ومنع عرضه على الجمهور، حتى في الموافقة الملتبسة حول السماج بعرضه في المهرجانات العلمية والثقافية هناك تناقض مخيف، من يحدد ماهو المهرجان العلمي؟ ومن يحدد ما إذا كان هذا المهرجان تثقيفياً أم لا؟ فقد تم منع عرضه في مهرجان بيروت سابقاً…
–
–
–
أخيراً، ملخص الوثائق أعلاه، الوزير بارود تخلى عن صلاحياته، لم يستطع ان يأخذ قراراً (او ان يفرضه) ودفع بالأمور نحو لجنة مشكلة عن رئيس مجلس الوزراء، التي قررت واحالت الى المدير العام للأمن العام (قراراً بمنع عرض الفيلم أمام الجمهور، وبالتالي بيعه الى المواطن العادي) ليقوم الوزير بارود بما يبرع فيه، التوقيع، والتوقيع فقط…
–
معالي الوزير، تخليك عن صلاحياتك بهذه الطريقة يحيلك “مديراً” وليس وزيراً، من صاحب القرار الفعلي في وزارة الداخلية؟ ومن يحرك الأمور؟، تماماً كما حدث مع الإصلاحات الإنتخابية الموعودة، نكث الوزير بوعده (ممنوع يمنع الفيلم)
معالي الوزير، أدعوك مجدداً للإستقالة، لأن وجودك بات لا يقدم ولا يؤخر، “لا تربحنا جميلة” لأنك تستمع، او لأنك تسمح بالتظاهر دون إذن المحافظ، ولا تخبرنا عن العقبات أمام الحلول، نحن لم نطلب تغيير النظام، مطلبنا ببساطة كان عدم منع الفيلم، إلا إنك اصريت ان تكون “بالوج وزير، وبالقفا مدير..”
حصيلة أخرى، لبنان “الرسمي” كله بات مع منع الفيلم، عدنا الى نقطة البداية، أهل السياسة في لبنان يخافون التذكير بالماضي الأليم، يخشون المحاسبة، ويرتعدون لأي تحرك يهدف الى تنشيط ذاكرة اللبنانيين انهم هم ذاتهم من كانوا عصابات ومافيات وميليشيات الحرب..
–
أما معالي الوزير، طبعاً هناك من هو احق منك بالإستقالة من زملائك الوزراء، لا بل هناك من يجب ان يحاكم ويحاسب على ما إقترفته يداه، إلا ان خطيئتك مضاعفة، نحاسبك قبل سواك ببساطة لأننا لم نتوقع منهم شيئاً، ولم نعقد عليهم أي أمل، أما انت فأعطيتنا ومضة إنعاش وبارقة تطور للمجتمع المدني ، فكذبت عليناً مراراً، فكنت منّا واصبحت علينا..
–
–
–
–
اترك تعليقاً