ثمة لوحة كبيرة مرفوعة على أوتوسراد ساحلي تحمل صورة أحد السياسيين وتحتها شعار “نثق بهذا الرجل حبيب الفقراء”، تترك الصورة إنطباعاً لمن يراها أن لصاحبها حيثية شعبية كبيرة، فإما ان الرجل ربيب بيت سياسي ووريثه الأوحد، وإما ربيب سلاح وميليشيا أوصلته الى قمة الهرم الحزبي، وإما انه قد بنى لنفسه إمبراطورية من المستلزمين قوامها المال والتملق “وتبويس القفا”. أما عن الفرضية الأخيرة وهي ان يكون إمبراطور طائفة فهي ساقطة بحكم الصورة ذاتها لأن الرجل لا يبدو عليه أي من إمارات التدين اي “عدة النصب”.
الرجل صاحب الثقة العريضة (أعرض من اليافطة)، لابد وان يكون هو نفسه من دفع ثمنها وإلا لمن اين جلب الفقراء (وهو حبيبهم) ثمن تلك اليافطة العملاقة وإيجار اللوحة الإعلانية التي ثبتت عليها وهي بحكم موقعها على اوتوستراد حيوي لن يقل إيجارها عن بضع آلاف من الدولارات؟
ينسحب كذب اليافطة على هراء الطبقة السياسية بأكملها، فاليافطات هي واحدة من “عدة” الإستقطاب الممنهج تارة والمأدلج طوراً، يشتري بها هؤلاء أدمغة من إسترخص الحياة وباعها في شعار فداء السياسيين بالروح وبالدم، هو سوق نخاسة متطور عملته الطائفية والمال والأيديولوجيات المهترئة.
ليس المال هو وحدة عدة الإستقطاب السياسي في لبنان، وهو بالتأكيد لا يحتل الدرجة الأولى، فمن هو القادر على مقارعة الطائفية والمذهبية في عقر دارها؟ لا أحد، هذه العقدة القاتلة تنهش التاريخ اللبناني بعهديه القديم والجديد، مخطىء للغاية من يظن ان حرب لبنان الأهلية بدأت العام 1975، فماذا عن صيف 1840 وصيف 1860؟ الم تكن مواجهات طائفية بحتة؟ الم يقتل اللبنانيون بعضهم بتحريض خارجي؟ كم درزياً وكم مسيحياً مات في تلك الحربين الضروسين؟ مئات، لا بل ألوف… من كان موجوداً ليحصي القتلى اصلاً؟
الطائفية هي علة متشعبة بحد ذاتها، فالمذهبية هي “السوسة” التي تزيد من حدة النخر، حتى بات اصحاب الديانة الواحدة غيلاناً تتربص بعضها، طبعاً بوقود تصريحات نارية من خطباء المنابر، فالمواطن المسير لا المخير بحكم سطوتهم لا يقوى على الإعتراض، فيمشي مع الماشي “ليسيسر” الوضع ولأن تراكم الخوف والجهل والمجهول علموه ان يجارهم ما دام في دارهم، فأصبح حكم الإنتماء الى الطائفة فعل خوف والتمرد عليها من ضروب الجنون، والمطلوب شراسة الإنتماء فالطائفة وحتى المذهب في خطر!!!
الطائفية والخطاب السياسي الطائفي ليست وحدها في الميدان، فلطالما طفى على سطح تعقيدات المجتمع اللبناني ثلة من هواة السلاح والقتل ومحبية لأسباب عديدة، والسلاح بين الأفرقاء المتخاصمين هو عقدة من العقد التي يسهل السيطرة عليها بعكس الإعتقاد السائد بإستحالتها، إن نظرنا الى حب اللبنانيين الى الإقتتال اليوم نرى ان الشريحة الشبابية هي الأكثر ميولاً للقتال، وإذ نحيد قليلاً النزاع المسلح على الحدود الجنوبية لإرتباطه بالنزاع مع طرف خارجي اي دولة إسرائيل، نقترب من واقع المشكلة الداخلية اللبنانية، لنستطلع مثلاً لماذا؟ وكيف لم يتعلم هؤلاء العبر المستخلصة من تاريخ الحروب والنزاعات التي كان لبنان مسرحاً لها؟ فتأتي سلسلة من الإجابات المنطقية، أولها إندفاع الشباب للمغامرة، إما بسبب الهذيان الجماعي وإما لفرط ما شاهدوه من أفلام “الكاو بوي” ناهيك عن الشعور بالنشوة العارمة والطمأنينة الغريبة التي يوفرها السلاح. الإجابة الواضحة هي ان السلاح كأخر الدواء اي الكي، السلاح يعطي هؤلاء الشباب شعوراً بالأمان الإجتماعي وإحساساً بالراحة، وبتحليل سيكولوجي سريع لبنية المجتمع اللبناني وما شب عليه هؤلاء من تربية عنيفة وامام عدم الإستقرار وفقدان الأمل بالتغيير لامفر لهؤلاء سوى إفراغ تلك الطاقة الصبيانية تمرداً وتطبيقاً لمنهج العنف وثقافته التي ترعرعوا في وسطها، فأغلب أحاديثهم ترتبط بالعنف والقسوة والسطوة والرجولة والمقدرة على الفوز بأي وضع وبأي وسيلة وبأنهم على حق، وبأنهم أبطالاً لا يقارعون وان النصر حليفهم كيفما دارت البوصلة…
في أكاذيبهم الصبيانية يؤلفون قصصاُ من رسم الخيال، تتوجهم أبطالاً في نظر انفسهم ليستطيعوا مواجهة الآخرين، واكثرهما إثارة للضحك قصتان، الأولى رددها أمامي شاب يدعي انه قد ذهب في دورة تدريب حزبي الى قلب إسرائيل منذ سنتين تعلم فيها كيفية القتال وقيادة الدبابات وانه عاد عن طريق قبرص وبات على إستعداد تام لمحاربة من يتهدد وجوده في لبنان، والقصة الأكثر إضحاكاً عن شاب “وظوظ” شعره “سبايكي” اقنع صديقته انه خضع لدورة تدريب على تفخيخ السيارات في البقاع على يد أحد الأحزاب وآخر ذهب الى حد القول انه سافر الى إيران وتدرب على إطلاق الصواريخ والقنص، حقيقة تلك القصص التي لا تتعدى الأوهام الصبيانية، هي عقد نفسية متأصلة وإستعطاف الأخرين وإظهار السطوة، فما من حزب سياسي قادر على تحمل تبعات إرسال احد الى إسرائيل ليعود ويثرثر بالأمر أمام شلة الأصدقاء أو مدون مجنون، وبالتأكيد ليس هناك من حزب يمتلك المقدرة على خوض حرب سيستعمل شباناً ثرثارين وإلا لسقطت منظومته العسكرية كاملة، والأمر الأسوأ هو جهل اصحاب القصص تلك بأن قيادة الدبابة، أو التخصص بالعبوات الناسفة او حتى إطلاق الصواريخ هو عملية محض كيميائية وفيزيائية تتطلب مقدرة علمية عالية وقدرة على القيام بعمليات حسابية أسرع من الألة الحاسبة بما فيها من قياس سرعة الرياح والإتجاه المقوس للمقذوف وسرعة تحرك الهدف إضافة الى التمرس على شبكة الرؤية ومرفاع القتال، كلها علوم غابت عن أصحاب تلك الأكذوبات، ولو كانوا وبعض مصدقيهم على درجة من الذكاء لأكتشفوا ان الأمر ليس بالسهولة كأفلام حرب فيتنام التي إنبهروا بها…
حمل السلاح والإقتتال بالنسبة لهؤلاء فعله فعل المخدرات والسيجارة المتمردة على رغبات الأهل والمجتمع، هي نوستالجيا بغيضة لإسترجاع حمامات الدم القديمة، والعودة الى الشارع على هيئة ميليشيات تناصب العداء لكن من لا يتوافق مع معتقداتها، إيفوريا الشباب، عقدة الجهل، ولو قرأ أحدهما كتاباً في العلوم السياسية لكان رأسه أول ما يصوب عليه من بندقيته العجراء.
ليس أرباب الشوارع واليائسين والفاقدين للأمل وحدهم في الخندق الخطأ مستسهلين العنف كوسيلة لحل النزاعات، هناك بعض من نهل من العلم سبيلاً لكنه هام في آتون الدم والحديد والنار، هؤلاء هم الأخطر، فهم من يشغل حيز التنظير والتهليل للعنف كوسيلة لحل الخلاف، اي خلاف، يؤمنون ان الإغتيال مثلاً وسيلة الإنتهاء من حاكم ظالم، مجدداً الجهل ذاته مقنعاً بلباس العلم…
هؤلاء مثلاً يجاهرون بإحترامهم لقيم المجتمع المدني والوحدة الوطنية ونبذ الطائفية غير أنهم أول المتنكرين لها، ينظرون لقضايا خاسرة، على إستعداد تام لإستعمال عبارات من عيار “هم” و “نحن” ، هؤلاء غاطسون في معصية الخير من اصغر التفاصيل قبل أكبرها! يسبغون “الفايسبوك” بديانتهم ومذهبهم قبل الصورة، يرفعون شعاراً حزبياً في حرم الجامعة، يتنكرون للأصول والمبادىء، يؤمنون بالعنف، ينسحبون عند أول بادرة حوار، وإن حاوروا، فنقاشهم جدال بيزنطي للإقناع لا للإقتناع…
خلاصة، من يؤمن بقضية لا يستطيع الدفاع عنها بالمنطق والواقع والعلم لا بالظروف وحكم الخوف هو أمام فرضيتان، فإما انه ليس مؤهلاً للإيمان بها، وإما إنه مؤمن بقضية خاسرة…
ختام مع التنويه ان ما تقدم لا ينسحب على حالة حزبية واحدة، ولا على طائفة واحدة، ولا على شخص بعينه فهي تنسحب على جميع المؤمنين بأيديولوجيات وأفكار حزبية فيها منطق المواجهة، من يرى فيها تشابهاً كبيراً بين ما يعيشه وبين ما قرأه فليتوب ، ومن لا يرى فيها اي جزء من شخصيته، فهو على خطأ أكبر واعظم، وعليه العودة الى رشده فوراً…
–
–
–هذا الفيديو كان من المفترض ان انشره في تدوينة عن ذكرى الحرب اللبنانية
–
–
Dedicated to Emi , the Sarcastic and the Poet in solidarity with her Tweet
and because she didn’t give up (yet)
–
اترك تعليقاً