“إنشكحت” وإنفرجت الأسارير الوطنية بحلول الذكرى السابعة والستين لعيد الإستقلال مستذكرة يوماً تاريخياً من سيرورة لبنان، يوم تمكن اللبنانيون بتضامنهم وتكافلهم من تحقيق الإستقلال وإجبار الفرنسيين على مغادرة البلاد مضافاً اليها تكاتف الأحزاب اللبنانية والعمل يداً بيد نحو الإستقلال.
ما تقدم هو القصة الرسمية التي ترد في كتب التاريخ والتربية الوطنية في لبنان (بإستثناء كلمة “إنشكح”) على ان الحقيقة كالعادة هي عكس كل ما سبق، فحكاية الإستقلال مختلفة للغاية، فإستقلال لبنان منتج خالِ تماماً من مشتقات البطولة والتضامن الوطني من خبريات توحد النجادة والكتائب والشعب الذي يصرخ “بدنا بشارة بدنا رياض” التي ما هي إلا قصص ثانوية، كان بإمكان الفرنسيين ان يقمعوها لو ارادوا (فيما عدا قليل من الإستثناءات من سعيد فخر الدين وابطال بشامون وقلة غيرهم)، على ان الترنح البطولي المصحوب “بالإنفعاط” اللبناني غالباً ما يميل نحو تصوير الأشخاص على هيئة أبطال مقدسين…
إذن، أطل موسم التفصح والتسابق على الإرتماء بأحضان القصائد الممجدة بلبنان، وهم من قال عنهم الأخطل الصغير “بشارة الخوري” يملأن أذن الليل طرباً وغناءً والليل ينسجن كل مكيدة…
الخبرية المهضومة هي ان البحث في تاريخ المحطات الإستقلالية اللبنانية يظهر حقيقة مرة وهي ان المواعيد الإستقلالية اللبنانية جاءت كلها بمحض الصدف، او نظراً لتصاعد ضغط إقليمي معين، او تغيير معين في تكتيكات الدول المهيمنة.
الغوص في تاريخ المحطات الإستقلالية يظهر مدى عقم اللبنانيين على إنتاج اي تغيير يذكر، فبداية مع فخر الدين الذي “طنشت عليه” الدولة العثمانية لأنه كان يدفع الضراب في أوانها، مروراً بالإستقلال الشهير العام 1943 الذي نحتفل به اليوم والذي جاء نتيجة لإنتفاء الحجج الفرنسية بالبقاء في المنطقة نتيجة للتغيرات الدولية التي تلت الحربين العالميتين الأولى والثانية ومستنقع شمال افريقيا التي جرت اليه فرنسا بتحريض من بريطانيا، مروراً “بالتحرير” في 25 ايار الذي اتى ايضاً نتيجة لتغير التكتيكات الأميريكية الإسرائيلية في المنطقة، وأخيراً الى إنتفاضة الإستقلال التي لم تكن مسؤولة عن إخراج السوريين بقدر ما اخرجهم تبعات تلك التكتيكات ذاتها والخرائط الجديدة للشرق الأوسط، مصحوبة بالفعلة السورية الهوجاء بقتل رفيق الحريري.
الإستقلال “يا جماعة” هو ان تكون حراً في بلدك، وان يكون بلدك سيد قراره، بعيد عن الأحلاف بإختلافها، وان تكون الطبقة السياسية قد وصلت الى الحكم بطرق ديمقراطية لا بفعل الدم ومفاعيل الثورات البائتة، ولا بفعل المال ولا تكريساً لمحاصصة طائفية او سياسية، ولا إستزلاماً بالأموال والمحسوبيات، الإستقلال ان تعيش عيشة كريمة، لا يضربك دركي ولا “يسحسح” لك زعيم، الإستقلال هو ان يكون لك حدود واضحة، وان تتصالح من اخاك اللبناني وان لا تقتله إن إختلفتما في المبدأ وان تناضل معه في الحصول على حقه كما يناضل معك للحصول على حقك، الإستقلال ان لا ينشغل المفكرين “الغاضبين” بما يجري خلف الحدود والوطن أصلاً في مأزق، الإستقلال هو ان ترفع صوتك وتطالب بحقك بعيشة كريمة في لبنان، قبل ان تناضل من أجل فلسطين والعراق وبورما وبوركينا فاسو!، الإستقلال هو ان تعيش حراً في الشمال وان تحرص على حرية اخاك في الجنوب، الإستقلال هو ان لا يسحقك التاجر، ولا يعضك الفاجر، وأخيراً الإستقلال هو ان تعيش في وطن خالِ من الميليشيات وان لا ينتظر جيشك إنتهاء مواجهات الأر بي جي في الأحياء السكنية ليتدخل…
ملاحظتان لذيذتان طبعتا عيد الإستقلال هذه السنة، الأولى انه ولأول مرة يستبدل الروساء الثلاثة البذلة الرسمية البيضاء في إحتفال عيد الإستقلال بأخرى قاتمة سوداء هي عنوان المرحلة وهنا الصورة، والثانية هي تدوينة على تويتر مساء امس من VIPWoody هنا نصها
الإستقلال اللبناني هو عيد سابق لموعده، الإستقلال ليس تحريراً جغرافياً فحسب، بل هو التحرر من قيود الجهل والطائفية والفساد والتبعية وتصوير أشخاص على هيئة رموز لا تمس، وعليه، فالإستقلال معلق حتى إشعار آخر.
ختاماً، تستحق المناسبات الإستقلالية كلها ان تسمى بأعياد الإستغلال لا الإستقلال على كثرة ما تم الإتجار بها من قبل السياسيين وتجار الهيكل وباعة اليمام، هم أكثر من يناسبهم ان ترسم وتوسم تلك المحطات بأسماءهم “ليربحوا العالم جميلة” انهم هم صناع النصر الإلهي او الـ 14 آذاري ولا فرق بين الإثنين، فكلاهما ثمرة تفاح لم تقطف، إنما وقعت عن الشجرة لا أكثر ولا أقل…
اترك تعليقاً