بالزمنات، يوم كان للقهوة عز، وللشارب هيبة، وللإنسان كرامة (من زمان كثير يعني) ولمعركة طاولة الزهر حماسة المونديال وصراخ اعلى من صوت “الفوفوزيلا”، كان هناك مقهى يفترش زاوية شارع غورو المسمى على إسم الجنرال “الفرنساوي” الذي إستوطنه يوماً في منطقة الجميزة في بيروت، المقهى ذو الواجهة الزجاجية إنسحب وصفه على إسمه فبات يعرف “بقهوة القزاز” او “القجاز” باللهجة البيروتية.
في يومنا هذا حيث بات للذاكرة سعر، ولرأس المال سطوة أكثر من رأس العقل، و “للفاليه باركينغ” وسترته صولات وجولات فاقت بطولات “أبو العبد” وشرواله وطربوشه، كان من الطبيعي ان ترتحل “قهوة القجاز” عن دنيانا الصاخبة لتحجز مكانها في كتاب التاريخ والبوم صور بيروت القديمة في صمت مهيب الى جانب معالم كثيرة بموجب تغير الوجه القديم لبيروت، اليوم تنضم “قهوة القجاز” الى المودكا، والويمبي، و”الكافي دو باريس” وغيرها من المقاهي التي عاصرت البيروتان، بيروت الحرب، وبيروت السلم.
لابد وان “ماريكا” في عتمة قبرها تتقلب وتتلوى وتأسف للدرك الذي وصلت اليه تلك المدينة التي لم تنم ولم يهدأ صخبها حتى في اصعب المحن وأحلك الظروف، ماريكا، تماماً كما قهوة القزاز، تفوقت في زمانها على عقدة “البيروتان” الشرقية والغربية، فلم تقفل يوماً حانتها الوردية، ولا توقفت عن إستقبال إيلي وعلي ووليد خلف الأبواب الموصدة ، يمنون النفس بليلة حميمة مع جانيت او علياء او بديعة…
قهوة القزاز بدورها تشبه ماريكا، تعبت شيئاً فشيئاً، هرمت، وتجعدت، بداية إرتحل عنها الحكواتي والقصص الخيالية التي تتخطى حدود الزمان والمكان والمعقول، فترى عنترة إبن شداد “يحط فكاش” مع نابوليون بونبارت، فيحطم عنترة يد نابوليون ويكسر خجله، ومن ثم إرتحل عنها ناسها وقبضاياتها، فحاولت ان تتبرج وتزيد من زينتها لتواكب شباب العصر فلم تفلح، فقررت الرحيل.
حتى في رحيلهما تشابه مرير، بالأمس ألم بماريكا مرض عضال انزلها القبر في مهجرها في أثينا، واليوم صرع “المال” مرض العصر العضال قهوة القزاز لتدفن نفسها بنفسها بين علب ذكريات لن تكون للمستقبل إلا طيف ماضِ تاه عن حاضره، وخبريات غير متصالحة مع ماضيها.
قهوة القزاز رحلت…
للفقيدة عز وجاه وتاريخ، ولكم من بعدها طول البقاء…
—
—
تدوينة أخرى حول الموضوع: وداعاً قهوة القزاز
من مدونة خربشات بيروتية هنا
–
اترك تعليقاً