قد تثبت التحقيقات يقيناً براءة “زعران” الطبقة السياسية اللبنانية من حادثة مقتل المواطن نبيل زغيب، أقله من الناحية القضائية، وستقيد الحادثة (بل قيدت) على إنها واقعة إنتحار اقدم عليها الرجل الخمسيني في غرفته منذ حوالي الإسبوع، وسيطوى الملف، ويصبح نبيل زغيب رقماً على صفحة في ملف وقائمة طويلة توسم بأسماء “المجاديب” ممن لم “يحبوا الحياة” ولو “بكل ألوانها” ، على ان الحقيقة مغايرة للواقع، فالمتحكمين برقاب العباد من سياسيين وفاسدين هم الفاعل، وهم المحرض الاول والاخير على هكذا جريمة بحق الإنسان.
أمراء الحرب والسلاح والفساد، ممن صكوا لأنفسهم وكالة طائفية على العباد بأسم الله والدين، لم يكتفوا بألوف القتلى الذين سقطوا في حروبهم العبثية منذ 1860 الى اليوم، ولم يعد يكفيهم ان يقتلوا الناس بتأليبها، لا بل إندفعوا الى قلب كل مواطن يحثوه على قتل نفسه، فما لم يفعلوه بالطائفية والسلاح، تفعله البطالة والعوز.
نبيل زغيب، مواطن لبناني خمسيني، طرد من عمله بسبب الإستنساب الطائفي، العلة الراسخة في نفوس البعض رسوخاً “أخو شرموطة” لا يزيحها إلا زوال من يغذيها بخاطابات شعبوية وتجييشية تحت عناوين ايام الغضب، وايام العزة، وبالطبع ايام الإنتخابات، والأسوأ، ثقافة شعبية مالحة عجرة من نوع “السني دمو أزرق” او “الشيعي إلو دنب” أو تعشى عند الدرزي ونام عند الماروني”.
نبيل زغيب، ليس ضحية الطائفية التي تتآكل النفوس فحسب، بل هو ضحية من سرق من جيبه وجيبنا كلنا 80 مليار دولار، سرقوها على هيئة مشاريع، وأوراق ومجالس مفتوحة للنهب، تارة بإسم بيروت واوتوستراداتها ومستقبلها، وطوراً بإسم الجنوب وإعادة إعماره، حتى لم يعد بالإمكان لا التخطيط ولا التنمية، فطارت معها كل فرص العمل والأحلام والآمال، وحتى البسمة من القلوب، هؤلاء هم من رفع نبيل زغيب على عود المشنقة التي نصبها في غرفته وإرتضاها لنفسه إنتحاراً وخاتمة.
نبيل زغيب، فقد عمله وهو “الحيلة والسليلة” فلم يجد ما يسد به قوت عياله ومتطلبات أولاده العاطلين عن العمل، تقطعت به السبل فأنتهى بعقد عمل و بتذكرة طائرة تحمله الى اسخن البؤر الأمنية في العراق ، وهي محاولة إنتحار بحد ذاتها، ولما لم يسعفه شيبه في التأقلم مع متطلبات العمل اعادوه الى لبنان، من جديد قرصه الجوع، عضه، نهش جسده النحيل، فأمسك ورقة دون عليها بضع كلمات إعتذار، من الله والزوجة والأولاد، إعتذر من المجتمع، وطلب من احد رجال الدين السياسيين المعلقة صورته في صدر المنزل ان يسد عوز عياله، شد الملاءة الى السقف ومن ثم الى يديه كي لا يتراجع لأنه “خائف” على ما تقول رسالته، فلفظ أنفاسه الأخيرة.
نبيل زغيب، بوعزيزي لبنان، في رحيله عن عالمنا، خلف وراءه عقدتان، رحل يائساً من التغيير يرتعد خوفاً، ولفظ انفاسه الأخيرة وهو يستجدي الطبقة السياسية برسالة خطية ان تؤمن لعياله وظيفة بعد رحيله.
إن كان لابد من إعادة إنتاج خطاب وسقف للتظاهرات التي تعم لبنان اليوم مطالبة بإسقاط هذا النظام وما يرافقه من منظومة الفاسدين والمتحكمين بالرقاب، لابد من ان يعلوا سقفها ليطالب أولاً بالمطلب المعيشي الجامع، ومحاكمة هؤلا الرموز على ما إقترفته ايديهم من جرائم.
قبل ان نشطب الطائفة عن السجلات، فلنشطب من يقيدها في القلوب قبل سجل النفوس.
اترك تعليقاً