لا أروع من الإنتشاء بالشعور الثوري الوطني العارم والجامع للمواطنين اللبنانيين لأول مرة منذ ان خلع لبنان عنه عباءة الحرب الميشياوية، حتى ولو إستبدلها برداء الحرب الباردة بين أمراء الطوائف والأحزاب، ولا اروع من مشهد اللبنانيين يسيرون في الشوارع، كاسرين حواجز الخوف، مخرجين الى العلن كل الـ “لآت” التي لم تفقد عذريتها بعد حتى ولو امعنت قوى 14 آذار في سرقتها وصلبها على لوحات إعلانية، بمواجهة ال”نعمات” من ناحية قوى 8 آذار التي بدورها تغتصب اليافطات وتدورها، بغض النظر، “اللا والنعم” ليس لهما من حيل ولا سند سوى المواطن اللبناني الرازح تحت آتون التهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور ومطرقة اليمين وسندان اليسار.
في ظل المراوحة السياسية في لبنان بين القطبين الأكبر على الساحة اللبنانية وهم، إضافة الى بعض “الفراطة”، يشكلان سوياً ما يجمع عدد كبير من اللبنانيين على تسميته بالنظام الطائفي، بمعنى آخر، هم رموز هذا النظام المسؤول عن الغياب المطلق لكافة اشكال الحكم الرشيد، و دولة القانون والمؤسسات، الأمر الذي لا يمكن إلا ان يزيد الفساد فساداً، والهدر هدراً، ولا يصلح شيئاً، لا بل يزيد الطين بلة ويضع مصالح المواطن واموره الحياتية واليومية في اسفل سلم اولويات هؤلاء المشغولين بمزيد من السطوة، مالاً وسلاحاً وجماهيرية وطائفية حتى باتوا وكانهم يعيشون وحدهم على طول وعرض الـ 10452 كلم مربع ، في بلد سكانه من الأشباح، فقد بات سكان لبنان كافة مجرد ارقام إنتخابية او تجييشية تحشد في مظاهرات “قد المراجل” والمزايدة في سوق القحاب المحاضرين بالعفة.
لطالما حاول المجتمع المدني اللبناني وما ينضوي تحته من هيئات وتجمعات وافراداً ومؤسسات غير حكومية ان يكسر حاجز الرتابة هذا، لكنه، وإن صعد محاولاته بعد الإنسحاب السوري من لبنان، فشل منذ البداية، ولا يزال حتى الساعة، نموذجاً لسوء الآداء وغياب التخطيط ولم يحقق ولو إنتصاراً واحداً يبعث الأمل في إحداث خرق من اي نوع، فلم يعدل لا مشروع قانون، ولا فرض تغيير ملحوظ على نظام الحكم، ولا إستجلب حق لمحقوق، ولا بأضعف الإيمان افرز قادة شباب يقودون التغيير، حتى ان الوزير الوحيد القادم من كنف المجتمع اللبناني وجد نفسه يحارب صفعاته لأنه إستسهل التصويب صوبه، لا صوب كبار الفاسدين، ولا ملامة على اي حال، مع ثبوت إستحالة نظرية التغيير من الداخل.
مع إنهيار الديكتاتورية الأولى في المنطقة في تونس، اعتقد الكثيرين ان ربيع العرب بات على الأبواب، فأسرعوا الى “ضبضبة الشتوي” وإنزال اللباس الصيفي واعتقدوا ان الثورات موضة ونزهة خاصة بعد ان خرج المصريين الى الشوارع مسقطين مبارك ونظامه وحزبه ولو وقعوا لاحقاً في فخ عسكرة النظام وما ينتج عنها من كم للأفواه ومحاكمات عسكرية لمدنيين لا تنتج سوى احكاماً معلبة مسبقاً.
في لبنان، ولما كانت الحاجة ماسة الى ركوب الموجة، اي موجة، حاول النشطاء اللبنانيين إستثمار الشعور الثوري الجارف في إحداث خرق من اي نوع بعدما يأس العديد (وانا منهم) من نظرية التغيير عبر الجمعيات الغير الحكومية على صعيد خرق النظام الطائفي المتلون والمتلوي كالأفاعي، فخرجت الى العلن فكرة حملة سميت “إسقاط النظام الطائفي”.
على انه ومنذ ان انطلقت حملة “إسقاط النظام الطائفي” قبل ان ان تنضم اليها “ورموزه” علناً والأخطاء تتوالى، وإن كان هامش الخطأ مسموح به مقابل فضيلة إصلاحه والعودة عنه، الا ان العناد والسير في إتجاه هو عكس إتجاه المنطق والإستراتيجيا هو خطأ مدمر غير قابل للإصلاح، وما المكتوب هنا إلا محاولة لأبداء الرأي وإسداء النصح، لا للتنظير والـ “فشخرة”، إنما من باب الحرص فكلنا مسؤول عن حسن سير الحراك الى ان يصل بحده الأدنى الى تغيير تشريع او إصلاح قانون، لربما نستطيع على المدى المنظور(خمس سنوات و”الشطح طلوع” إسقاط النظام ورموزه، كل رموزه.
ان اولى اخطاء الحراك كانت في المبالغة في تسميته، “ثورة”، اي ثورة؟ وما الجملة (ولوو يا شباب، نزلوا اليافطة لو سمحتوا، ما كلنا سوا بالثورة) التي سمعتها من احد المنظمين إلا دليلاً على قصر النظر في هذه الحالة بإعتبار ما يسمى بالثورة نزهة نهار الأحد. ثم جاء الشعار العريض “الشعب يريد إسقاط النظام” في إستنساخ للحراك المصري، الأمر الذي يحمل إحتمالين في ميزان الأخذ والرد، الإحتمال الأول هو كون الشعار العريض والدرامي هذا يفسح بالمجال امام هامش مطاط وواسع من التحرك والمناورة يسمح برفع وتيرة المواجهة الى سياسية بإمتياز ومن ثم الهبوط الى المطالب الحياتية اليومية للمواطن اللبناني دون الحاجة الى تعديل سقف الخطاب، والإحتمال الثاني الذي لم احذفه يوماً من إحتمالاتي وتوقعاتي الشخصية هو ان يكون الشعار هذا مخيفاً لبعض اللبنانيين ما لم يترافق مع حملة لشرح معاني إسقاط النظام الطائفي وصولاً للنظام المنشود، اقله تطمين المواطن المنتظر منه المشاركة في الحراك ان إسقاط النظام الطائفي لا يعني سطوة المسلمين على البلاد والعباد، ولا إقفال دور العبادة والتزلف الطائفي وإفلات السكارى في الشوارع، بل إعادة تنظيم عبر قوانين جديدة أولها قانون إنتخاب عادل على اساس النسبية والدائرة الواحدة خارج القيد الطائفي يضمن مشاركة افضل في صنع القرار وآليات محاسبة أكثر شفافية، وان توكل الأمور والوظائف حسب القدرة ومعيار الكفاءة لا الطائفة، الأمر برمته يتطلب حالة معينة من الوعي المجتمعي كان من الأجدر إطلاق حملة للتبشير فيه لا “التفزيع” به !!
المشكلات الاكبر للحراك تكمن في غياب المشروع البديل، فما هو بديلنا عن النظام الطائفي؟ اي مشروع نقدم؟ وكيف ولماذا؟ واين هي هذه المشاريع، فإن كنا سنقيم نظاماً إسلامياً او مسيحياً فأفضل الإنتحار صراحة، أما إن كنا سنقيم نظاماً إشتراكياً فأرجو ان تحجزوا لي مقعداً على اول طائرة تغادر بيروت، ليس المقصود هنا الإستهزاء بأحد، بل التنوية بغياب مشروع بديل يطيح اولاً بهذه الطبقة البالية من النصابين وقطاع الطرق ليكرس بديلاً واقعياً، فالنظام اللبناني هو نظام هجين شبه علماني فيما عدا التوزيع الطائفي للوظائف وقانوني الإنتخاب والأحوال الشخصية، مجدداُ لب المشكلة مع النظام هو تكريسه للطائفية خدمة لرموزها ولهذا السبب بالتحديد سيحرص دمى مجلسي النواب والوزراء على عدم تمرير اي مشروع بديل من المجتمع المدني ما لم يتأكدوا انه سيبقيهم في مراكزهم.
من المشاكل الكبرى ايضاً سوء الآداء الإعلامي فالحراك يعاني ويحاول بشتى الوسائل الخروج من دائرة التخبط بالحضيض بعد سلسلة من الخطايا التي لا تغتفر ليس اقلها الظهور في برامج متلفزة معلبة للإيقاع بالحراك في شرك اللاواقعية والوهم تارة، وسرقة الشعارات طوراً، والأدهى، الخروج على شريحة عريضة من اللبنانيين تنتظر بارقة امل، لنسأل عن برنامجنا وبدائلنا فنقول “لا يوجد!” طبعاً لا يوجد فقد بدأنا بالمقلوب!… زبدة الكلام، إعلامياً لايزال الآداء دون الصفر، وهذا مستغرب مع وجود عدد كبير من النشطاء الإعلاميين!!! في الشق الإعلامي ايضاً وهنا عود على بدء، عدم قدرة الحراك ومنظمية على مخاطبة المواطن في واقعه وحاله، وعدم قدرة العديد من اللبنانيين على تفسيره خاصة ان ترافق مع عبارات ضخمة متل “علمانية” و “ديمقراطية” و “دستورية” حتى ان وصل الحد الى “نمط الإنتاج الكولينيالي بالبلد” (شكراً حسين شحرور) هذه العبارات قد تتطلب معجماً سياسياً ولغوياً وبحوث علوم سياسية طويلة لفهمها، فكيف تستطيع هذه الشعارات ان تحاكي الواقع اليومي للمواطن المطلوب منه الدعم والمؤازرة؟ فليس كل مواطن عالم سياسي فذ يستطيع وحده فك رموز أدبيات السياسة ومفرداتها.
أمر آخر، هو عدم قدرة الحراك نفسه على ان يفرز قادة شباب جدد، فالتنظيم الحالي يعاني ما يعانيه من التنافر والصراعات المخفية وإصرار القيادات القديمة ذاتها على السيطرة على مفاصل الحراك وآليات الغرف السوداء وغياب الرؤية الواضحة لحاضر الحراك ومستقبله، فلا ادري على سبيل المثال من خرج بالفكرة الجهنمية بالتظاهر وصولاً الى مجلس النواب مع العلم الكامل (لا بل والتنسيق) على توقف الحراك في ساحة رياض الصلح كاسرين شوكة ما كان يجب ان يكون الخرطوشة الأخيرة في الصراع مع النظام ورموزه، فحرقوها باكراً وهنا نعاود السؤال عن مستقبل الحراك، وهل سيقتصر على التظاهر ايام الآحاد؟ لماذا إضاعة مركز الثقل في بيروت بتظاهرات المناطق؟ لماذا لا يشل حركة البلد ويشكل ضغطاً حقيقياً بالتظاهر والإعتصام في وسط الإسبوع، ولماذا لا يتم التنسيق مع قطاعات مهنية إن كانت النقابات في جيب النظام الطائفي، اين خبراء الدستور؟ الإقتصاد؟ التنظيم المدني؟ اين المحامين؟ القضاة؟ الأطباء؟ العمال؟ لماذا لا نبتدع ونبتكر اساليب جديدة؟ لما لا يعتصم الطلاب ويعطلون الدروس؟ لماذا لا تحاصر شركات الخلوي؟ الوزارات؟ لماذا لا تشل البنوك!، لماذا لا نذهب الى المواجهة؟ سلمياً طبعاً، عوضاً ان يواجه المتظاهرون عنفياً من مجموعات أخرى داخل الحراك ذاته؟
يبقى نقاطاً اخيرة ثانوية، كنت قد اشرت اليها في تدوينات سابقة، مثل إحترام التعددية داخل الحراك، ومخاطبة جماهير جديدة بدل من إخافتها بشعارات قديمة، فالظلم واحد والظالم واحد، نقطة اخرى، لماذا الإصرار على صبغ الحراك بالنفحة اليسارية؟ انا شخصياً لا امانع، أنما هناك اغلبية ساحقة خارج الحراك متضررة من النظام الطائفي و تواقة للإنضمام للحراك كحراك وطني جامع، هذه المجموعات قد تهاب الحضور لبعض هذه الأسباب.
لابد من اعادة تقييم الحراك ووضعه، لابد من بث الروح الشبابية المبدعة فيه، ليتحررمن ركوده ليتوسع أكثر، وينتج ضغطاً اكبر، لابد ن إنتاج آليات ومطالب واضحة للتغيير المنشود، فلا التخييم والمطالبة بالتغيير وحده سينفع، ولا تزلف النائب للحصول على وعد بتوقيعه على مشروع قانون وحده سينفع، ولا التظاهر وحده ينفع، المطلوب بوتقة من الخطط والأفعال الضاغطة تشمل كل ما سبق تضع الأمور في نصابها.
على الصعيد الشخصي، أنا باق حتى الساعة على تأييدي للحراك رغم آلاف الملاحظات، انا من المتضريين من النظام الطائفي، من مصلحتي ان ارفع صوتي بوجهه خدمة لما أرى فيه مصلحتي ومصلحة وطني، شأني كشأن الكثيرين، نحترق بالشمع خير من ان نلعن الظلام.
–
مجموعة من صور التظاهرات : بيروت – عمشيت – صيدا – بيروت
اترك تعليقاً