متلازمة ستوكهولم

ثمة دراسة إشتهرت بعد خمس او ست سنوات من إنتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، مفادها ان الشريحة الأكبر من اللبنانيين يعانون من امراض نفسية وعقد سيكولوجية مزمنة سببها الحرب العنيفة التي عصفت بالأمة على مدى سنين طوال، الحرب التي طالت وطال امدها، تركت للبنانيين على إختلاف مللهم العقائدية والسياسية والطائفية ميراثاً عصياً على الطب النفسي ان يزيله بسنة او إثنين، الأمر يحتاج الى ضعفي المدة التي قضاها اللبنانيون يتصارعون ويتناهشون حتى تضعف هذه العقد وتضمحل مع ولادة اجيال جديدة بعقول وروحية أكثر إنفتاحاً تزيل رواسب الماضي وتبعث أملاً مخضوضراً يعشعش في نفوس يانعة ويدفن معه احقاداً موروثة .

هذه العملية، او الإنتقال السيكولوجي من مجتمع حربي عنيف الى مجتمع متآخ ومسالم قد تعثرت في لبنان منذ البداية لغياب اهم ركائز العبور الى الدولة، اي فترة المصارحة والمحاسبة التي تعرف بقاموس العلوم السياسية بالعدالة الإنتقالية، عوضاً على الخوض في تحليل طويل للعدالة الإنتقالية، سأحاول ان اخرج بتحليل سيكولوجي آخر لبنية المجتمع اللبناني العاجزة عن الإتيان بأي تغيير يزيح الطبقة السياسية الحالية التي لم يتآكلها غربال السلم بعد الحرب فبقيت على حالها، تلسع بشوكة الطائفية وتمارس أدهى انواع البلطجة السياسية والحزبية مستندة الى قصور شامل في الوعي السياسي الإجتماعي للمواطن اللبناني في غياب مفاهيم الشفافية والمحاسبة وابسط معرفة بالحقوق والواجبات.

في العام 1973 سطا مجموعة من اللصوص على بنك في مدينة ستوكهولم وافتضح امرهم ما اجبرهم على إحتجاز الرهائن في البنك مدة ستة ايام، انتهت العملية بهجوم امني كاسح على البنك على ان المفاجأة الكبرى تمثلت في ان الرهائن رفضوا ان تقوم الأجهزة الأمنية بإعتقال الخاطفين، كما قاموا بالدفاع عنهم بشكل جنوني في المحكمة فيما بعد.

أخذت هذه الحادثة مثالاً على حالة من الضغط النفسي عندما يكون المخطوف او المهدد في وضع الخوف الشديد فينتج عقله الباطني حالة من رد الفعل اللاإرادي في سعيه الغريزي للبقاء على قيد الحياة، ذلك من خلال الاطمئنان للجاني، خاصة إذا أبدى الجاني حركة تنم عن الحنان أو الاهتمام حتى لو كانت صغيرة جداً فإن الضحية يقوم بتضخيمها وتصديقها، وقد تصل الى حد تفكير الضحية في خطورة إنقاذه مما هو فيه، و أنه من الممكن أن يتأذى إذا حاول أحد مساعدته أو إنقاذه، لذا يتعلق بالجاني أكثر فاكثر فيصبح لاإرادياً خانعاً وطيعاً.

علم النفس الكلينيكي الحديث سمى هذه الواقعة “متلازمة ستوكهولم” واسهب في الحديث عنها في حالة الدولة القمعية ، عندما لا تملك السلطة شرعيتها من اغلبية الشعب، فتصبح وسيلة الحكم القمعية ضاغطة على افراد المجتمع، ولمدة طويلة، يطور خلالها الافراد علاقة خوف من النظام، فيصبح المجتمع ضحية النظام، ويدرك النظام هذه الحالة مع الوقت، فيتقن لعبة ابتزاز المجتمع، وقد تكون الحالة السورية خير مثال على نظام قمعي يعامل مواطنيه بهذه القساوة، وإن تحرروا اليوم من عقدة ستوكهولم وهبوا للتغيير .

ما علاقة متلازمة ستوكهولم بلبنان واللبنانيين؟

لبنان بلد متنوع، قائم على إختلاف الملل والمذاهب الطائفية، تناهشته حرب اهلية طويلة وشقاق رهيب بين افراد المجتمع لم تستطع سنوات السلام ان تزيح شبح الحرب، بل ان جيل الحرب نفسه هو من يغذي نفوس الناشئة بالعنصر الطائفي وهو من يصر على إعادة الطبقة السياسية الفاسدة ذاتها الى الحكم، وان كنا سنحلل الواقع السياسي اللبناني ولو سطحياً لابد من الإشارة الى مجموعة من النقاط هي التالية:

–    السيطرة السورية على مفاصل الحركة في البلاد بأدق تفاصيلها عبر الشبح المخابراتي المرعب حتى العام 2005
–    سيطرة وجهاء الحرب البنانية وزعاماتها وامراءها على مفاصل الحراك السياسي في البلاد
–    سياسة التجييش والتعبئة الطائفية والتخويف والتهديد بالآخر التي اتبعها هؤلاء
–    ضعف وفساد المجتمع المدني اللبناني وعجزه عن صنع التغيير المنشود
–    الإرتباطات الخارجية الناتجة ايضاً عن مصالح الطوائف ورؤساءها

كل هذه العوامل اسهبت في وضع المواطن اللبناني البسيط تحت طائل الخوف الشديد من الآخر، ناهيك عن غياب العدالة الإجتماعية والمصارحة، كلها اسهبت في جعل المواطن اللبناني خنوعاً طيعاً، ساعة بالتهديد والتهويل الطائفي، وتارة بأستخدام القضايا القومية ونوستالجيا الشعارات الرنانة، وطوراً بإستخدام العنف الحزبي.

ان هذه العوامل مجتمعة شكلت مجموعة من العوامل الترهيبة التي تأصلت في جذور المجتمع الذي بات يربي الناشئة على ما تأصل عليه هو في مرحلة الحرب والإحتقان بداعي الخوف، وبتحريض مباشر من الطبقة السياسية التي تقود كل منها مجموعاتها الخاصة إما بالتخويف او الشمولية او العقائدية السياسية او الدينية.

ما اسلف من عوامل ترهيب سياسي وطائفي مضافاً اليها الضغوط الحياتية اليومية من لقمة العيش، الى الإنقطاع المستمر للكهرباء، الى غياب الخدمات، كلها عوامل تجعل من الفرد اللبناني تابعاً غير مستعد بعقله الباطني ان يكون عامل تغيير او منتفض للعدالة الإجتماعية او عامل ضغط رقابي محاسب على السياسيين، مفضلاً التبعية والتقوقع خيفة ووجسة من المجهول.

ما اسلف ايضاً يبرهن بما لايحمل الشك وبعد إنقضاء سنين طوال على إنتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، ان المواطن اللبناني بات فريسة عقله الباطني الذي يجعله متعاطفاً مع الفاعل فيه، راضياً ان يكون مفعولاً به، متعلقاً بالفاعل، لابل ومن اشرس مؤيديه ومحبيه، يتلقى إشاراته التعبوية عبر الشاشات، يتفاعل مع حركات يديه الكاريزماتية، يهتف له بالروح وبالدم، ويقدم له من ولاء وطاعة يوم الإستحقاق الإنتخابي ما لا يقدمه لمجتمعه ووطنه.

الشريحة الكبرى من اللبنانيين، الناخبة خصوصاً، تعاني للأسف من متلازمة ستوكهولم، هو حب الجاني والدفاع المستميت عنه، خوفاً من العبور الى مجتمع حر، سلمي، علماني وديمقراطي يقوم على إحترام الحريات، والعدالة الإجتماعية، وحقوق الإنسان بالمقام الأول.

نشرت هذه المقالة على موقع أخبار العرب بتاريخ 21 آب 2011


Tags:

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *