لم يخطر ببالي قط ان تنقلي المستمر بين بيروت والقاهرة لدواعي العمل سيتحول الى مغامرة ومؤامرة، خاصة واني قد قررت الإنتقال للعمل والإقامة في مصر بشكل دائم، لم يخطر ببالي قط او سأقول اني رفضت ان اصدق ان مصر ما بعد الثورة تشبه الى حد بعيد مصر ما قبل الثورة، تماماً كما لم يخطر ببالي ابداً ان خجل الشعب المصري وطيبته سينعكس على آداءه الثوري فيعزف عن إستكمال ما بدأه ويكتفي بالقليل ولو كان هذا إجحافاً بحقه.
لن اخوض أبداً في وضع مصر ما بعد الثورة سياسياً، ولا حكم المجلس العسكري ولا اي من المواضيع الداخلية المصرية فهذا ليس شأني أبداً، انا وبالرغم من كوني ناشطاً مهتماً بقضايا الحريات وحقوق الإنسان على ان تضامني مع مصر وثورتها لا يستدعي حشر انفي في شؤونها الداخلية، لأن هذا شأن مصري بحت، يقرره المصريين لا غيرهم، وهم بالتأكيد ليسوا بحاجة الى اي نصح وتوجيه خارجي. وربما هنا الفارق ما بين ان تكون ناشطاً مسانداً وان تكون متهوراً مؤذياً.
على سبيل المثال، لا يهمني ان صدرت مصر الغاز لإسرائيل ام لا، فهو ليس غازي! ولا يهمني التعديلات الدستورية فأنا لن انتخب ابداً، وغيرها الكثير من المواضيع المصرية الشائكة، انا في مصر بناءً على مهمة محددة تجبرني على وضع آرائي الشخصية جانباً وتحييد كل ما هو خاص لمصلحة العام، انا في مصر كمدير توجيه لمؤسسة مصرية ومركز تنمية تؤمن خدمات إستشارية مدفوعة اي انها ليست معبراً لأي تمويل فاسد او موجه وبالتالي تنفذ مشاريع مؤسساتية لا تتعاطى الشأن السياسي بل الشأن التنموي والبناء الذي يعيد لمجتمع مصر المدني قوته وإنسجامه وترابطه وهذا من شأنه ان يرفع مستوى الوعي الإجتماعي عند المواطن المصري، بإختصار، عملي في مصر مع مركز دعم التنمية والتأهيل المؤسسي، وظيفة مرتبطة بخبراتي السابقة في هذا المجال. خلاصة الموضوع، لست في مصر في مهمة ثورية ولا تضامنية ولا سياسية، انا في مصر في مهمة وظيفية اعطيها كل تقديري وخبراتي ومحبتي لما أفعل وتعود علي بالرضا المعنوي والمادي، ايضاً بإختصار، مهمتي في مصر تتلخص بوظيفة اتقاضى منها مرتباً يمكنني من العيش الكريم مع تحييد كامل لنشاطي الإلكتروني ودعمي للحراك المسمى بالربيع العربي

ماذا حدث ولماذا ؟
وصلت الى مصر حوالي الثامنة والنصف الى التاسعة بتوقيت القاهرة بعدما تأخر إقلاع الطائرة من بيروت ومن ثم عبرت مباشرة الى نقطة الجوازات على كرسي نقال تحسباً لأي مضاعفات نتيجة الوقوف الطويل بإعتبار انني قد تعافيت للتو من تكلس فقرات الظهر. عند نقطة الجوازات كان ينتظر ظابط امن سلمت جواز سفري للختم فتسرعت الظابط بختم الجواز قبل ان ينتشله من يدها ظابط آخر نتيجة ما ظهر على الشاشة امامه وطلب من مرافقي ان يصحبني على الكرسي النقال الى حجز الجوازات.
في حجز الجوازات ظابط شرطة برتبة رائد وامين شرطة وشرطيين عاديين ، امين الشرطة اصر على عدم إعطائي اي سبب وجيه للتأخير، بعد نصف ساعة سأل عن سبب جلوسي على الكرسي المتحرك وعما إن كنت قد تعرضت لحادثة في مصر فأجبت بالنفي مظهراً تقريراً طبياً من المستشفى الانجلو اميريكي بالزمالك يفيد بناء على صور الأشعة ان السبب هو تكلس الفقرات وهنا تدخل الظابط وطلب منه عدم الكلام معي

بعد نحو ساعة رحل الظابط وبدأ الإستجواب من امين الشرطة بداعي الحشرية، نظر الى الورقة التي تلقاها بالفاكس وسألني ان كنت مطور برامج فأجبت برامج تنمية او برامج كومبيوتر؟ فلم يعجبه السؤال وقال لا تتذاكى علينا انت هنا لسبب انت تعرفه جيداً، “كل واحد بيعرف هو عامل ايه”.
بعد ساعة اخرى من الإنتظار كنت قد توترت بفعل ما رأيت، عائلة كوبية كاملة تساق الى السجن وسط بكاء شديد لإستخدامهم جوازات سفر فرنسية مزورة، ومن ثم شخص تركي يطالب الإتصال بالسفارة ويحاول افهام ذلك الى عناصر الجوازات الغير مبالين، فتبرعت بالترجمة فقالوا لي “انت لسه جاي عليك الدور”.
سيدة مسؤولة عن التنظيفات تدخل المكتب وتضحك، الحمام مفتوح! كان فقط متاحاً لعناصر أمن الدولة سابقاً …
اطلب تدخين سيجارة فيمنعني امين الشرطة من الخروج فادخل معه في جدال طويل، هل انا موقوف؟ قال لا، حسناً جواز سفري معك ولا يمكنني مغادرة القاعة الخارجية من دونه لما لا استطيع الخروج؟ وهنا علا صوت الجدال فتدخل الظابط وطلب إدخالي الى غرفة اخرى.
استمر الجدل الى ان اشعلت السيجارة في المكتب وشرعت بتدخينها، ما ان فرغت منها حتى طلبوا ان يأخذوا هاتفي فلم اعترض سلمتهم هاتفين لبنانيين وابقيت على جهاز البلاكبيري بالخط المصري في جيبي وبدأت اتواصل مع الأصدقاء عبر الـ sms وطلبت عدم تصعيد الموضوع على الإنترنت ريثما تنجلي الأمور.
مرة جديدة دخلت في جدل مع امين الشرطة حول البقاء في الغرفة فوضع الأصفاد في يدي ونقلني الى غرفة ضيقة ومظلمة ولم يفك الأصفاد برغم اعتراضي مستعيناً بمواد قانونية إلا عندما اضطر الى استعمالها لتكبيل اشخاص آخرين وهي الغاية التي احضر من اجلها الأصفاد اصلاً.



بعد نقاش طويل وإصراري على ان احتجازي وحبس حريتي بهذه الطريقة غير مقبول لأنه يعد حبساً فيما لايوجد اي قرار قضائي يستوجب ذلك في مصر استجاب الظابط وامر بخروجي الى غرفة اكبر فيها عدد كبير من الموقوفين معظمهم من الفلسطينيين والسنغال وبعض المصريين فجلسنا واخذت المبادرة ورحت القنهم بعض من حقوقهم القانونية في مثل هذه الحالة الى ان حضر شخص بمرافقة من الشرطة فيما كان هو باللباس المدني وكان في غاية الإحترام وسأل سؤالين وانصرف
الظابط : ما سبب إصابتك في الظهر
الجواب: ديسك
هل انت من “ولاد” الفايسبوك؟
الجواب: لم افهم السؤال
حسناً يا استاذ، عشر دقائق واعود…
عاد بعد فترة شخص آخر ايضاً بزي مدني يحمل بعض الاوراق وجواز سفري وورقة صفراء لم افهم ماهيتها.
الظابط: من هو وائل عباس ؟
الجواب : صديق
الضابط: و…. (لم يتمكن من قراءة الإسم فإستعان بشرطي) ومينا ذكري؟
الجواب: صديق الكتروني
الظابط: اي ده الفورين بوليسي مين دول؟
الجواب: مجلة عالمية
الظابط: ولم تمنحك جائزة؟
الجواب: ليست جائزة، انما تقدير
الظابط : على ماذا ؟
الجواب: نشاطي الإلكتروني
الظابط: هو انت من اللي بيدعموا الثورة؟
الجواب: هزة بالرأس بمعنى لم افهم ما يقصد
غادر الظابط، وترك الباب مفتوحاً فتبعته الى الغرفة الأولى، وسألت الرائد الموجود هناك عما يحدث واين انا؟ فأجاب انني في حجز الجوازات بالمطار، هل انا موقوف؟ اجاب لا محجوز، سألت عن الفرق فلم يجيب قال اسمع لا يمكن ان اعطيك اي معلومات انا اصلاً لا تفاصيل عندي، كل ما اعرفه بأن هناك إشارة بعدم دخولك مصر وقد يتم ترحيلك بين اليوم او ظهر الغد
عدت الى الغرفة الأخرى، سحبت هاتفي وطلبت من اصدقائي ان ينشروا الموضوع على التويتر لأنه بدا واضحاً ان طريقي الوحيد للخروج من المطار هو طائرة الترحيل الى بيروت وهنا بدأت الحملة على تويتر وبدأ سيل الإتصالات التي لم اتمكن من الإجابة عليها كلها خاصة ان تواجد ظابط في الغرفة الى ان تبين انهم غير مهتمين فالكل معه هواتف في الداخل حتى السجناء! احد السنغاليين كان معه كومبيوتر محمول ففكرت ان استخدم خاصية الـ GPRS للإتصال بالإنترنت والبث من الداخل على انني لم اعرف الرقم الذي يجب الإتصال به لتشغيل الخدمة فبقيت على إتصال مع النشطاء عبر الرسائل القصيرة


احدى الرسائل التي تلقيتها كانت من علاء شهيب احد النشطاء اللبنانيين يبدي اسفه الشديد من تصرف البعض، الرسالة اصابتني بإحباط شديد لربع ساعة مفادها ان البعض في بيروت يتهمني بالكذب واني لست معتقلاً واني اختلق الموضوع للدعاية والمغامرة فقط ! فيما سيل الإتصالات الواردة من اصدقائي الرائعين في دبي ومصر وبيروت اخرجني من ذلك الشعور واستصغرت غباء المشككين الذين افترضت انهم كانوا سيساندوني في هكذا موقف فالألم في الظهر كان يشتد واصبت بصداع قوي كوني لم انم منذ اكثر من 24 ساعة .
الإتصالات تتواصل كذلك الرسائل من نشطاء وجرائد وشبكات حقوق إنسان وكنت انقل لهم المعلومة ويقومون بنشرها على تويتر وفايسبوك، واكتشفت ان بعض السجناء يستعملون الإنترنت المجاني في المطار حاولت ان ادخل الى الشبكة لكنني لم انجح بإستخدام البلاكبيري ولأن الإستجواب كان يتم على دفعات وهنا وبفضل الأصدقاء المصريين الرائعين الذين حضروا الى المطار تمكنت من الحصول الى الماء والعصير وقطعة كبيرة من الهامبرغر تشاركتها مع الشاب التركي الذي كان قد صرف كل ما معه من مال فأعطيته 100 جنيه كانت معي من زيارة سابقة لمصر.
حضر شخص مدني آخر، سؤالين…
الظابط: انت بتعرف وائل نبيل ؟ ثم صحح الإسم مايكل نبيل؟
الجواب: نعم لأنه ناشط لاعنف وانا مهتم بالموضوع وادرس اللاعنف
الظابط: هل لك علاقة بحزب الله؟ اعني ما هي طبيعة العلاقة .. ثم اضاف لاداعي لهذا السؤال، شكلك يوحي انك مسيحي من بتوع الحريري (!!!!!)
سمعت هنا الضابط يكلم الظابط الآخر ويخبره بأن قرار ترحيلي نهائي وعليه الإتصال بمحمود بيه ..
الظابط في مقر الإحتجاز فضل ان يكمل مكالمته الهاتفية مع ضابط آخر كان يسميه “الفلولجي” اي الفلول (مناصر للحزب الوطني) وكانوا يناقشون محاكمة مبارك…


اصرار مخيف على عدم إعطائي اي معلومات عن سبب المنع وهنا قصدت ان ادخل في حوار مع الظابط عما كنت قد عملت فعلته قبل الثورة وخلالها وعن كيف نقلنا المعلومات وكيف ناصرنا الثورة عبر الإنترنت وكان سعيداً بالحوار الى انه كان يصر على ضرورة حكم المجلس العسكري في هذه المرحلة فكان جوابي ان هذا شأن مصري داخلي لا يعود لي ان اناقش فيه وسألني صراحة ان كنت قد وجهت إنتقاداً للمجلس العسكري في العلن فأجبت بالنفي على انني لا استسيغ الحكم العسكري من ناحية المبدأ فضحك
امين الشرطة عاد للسؤال..
الأمين: ما سبب زيارتك لمصر؟
الجواب: سياحة وعمل
الأمين: ما طبيعة عملك؟
الجواب: إستشاري وإطمئن لا علاقة لأي من آرائي بعملي هنا
كنت قد اصبت بالأعياء والنعاس وهاتفي يرن واريد ان اتخلص من الغرفة الصغيرة للعودة الى الكبيرة حيث استطيع ان اشعل سيجارة فتركته بلا مبالاة وعدت الى الأصدقاء عبر الأس ام اس
هنا تمكنت من الدخول الى الإنترنت من البلاكبيري وبدأت انقل بعض الأخبار من الإحتجاز وعن انه سيتم ترحيلي الساعة الخامسة
تلقيت إتصالات عديدة من بعض الأصدقاء المصريين وكذلك المنظمات، المنظمة المصرية لحقوق الإنسان و مركز هشام مبارك وغيرها
في الخارج شخص يسأل عني ، يجيبه امين الشرطة ده تهمته انه بتوع الثوار، سأله ثوار ايه؟ ليبيا؟ اجاب لأ عيال الفيسبوك!!
احد الإتصالات الذي ورد الي من ناشط وحقوقي مصري معروف نقل لي الرسالة التالية، تأكدنا ان لاعلاقة بالداخلية بالموضوع نهائياً، لا مشكلة مع الداخلية، انت كتبت حاجة عن اخواننا الثانيين؟ (يقصد المجلس العسكري) أجبت بالنفي، قال يبدو ان المشكلة من عندهم…
يغيب عني تفاصيل كثيرة ساذكرها لاحقاً خاصة المشاجرة الطويلة مع الظابط وعن سبب منعي من الدخول وعن ان ذلك يتعارض مع المواثيق الدولية التي وقعت عليها مصر …
يطلبون ان اذهب الى مكتب شركة مصر للطيران لأحجز تذكرة، لم يكن معي المال الكافي وبطاقة الإئتمان لا تعمل في مصر وبالتالي اتصلت بالصديق والناشط المصري كمال نبيل الذي إشترى لي تذكرة على الإنترنت ومن ثم قام الشرطي بتخليص كافة الإجراءات واعادني الى مقر الإحتجاز حتى ربع ساعة على موعد الطائرة، اصطحبني متخطياً كافة الحواجز الأمنية حتى البوابة طلب بطريقة غير مباشرة ان اعطيه المال كي يسلمني جوازي عوضاً عن ان يسلمه الى الأمن على الطائرة وتم ذلك، في الطائرة تحدثت مع الصديق والناشط المصري وائل عباس عبر الهاتف ونمت الى ان هبطت الطائرة في بيروت
على حاجز الجوازات في بيروت يسأل الظابط غادرت الى مصر صباحاً وعدت مساءً ؟ قلت نعم، نظر الى الفيزا وقال ترحيل؟ قلت نعم، سأل لماذا قلت إسأله هو … سأل من هو؟ اجبته الريس.. اي ريس؟ فاجاب احد المصريين من خلفي الريس طنطاوي.
أشكر كل الأصدقاء والنشطاء والمنظمات التي ساندتني وشكراً لكل من نقل الأخبار عني على التويتر وفايسبوك، لولا مساندتكم لكانت الأمور قد اخذت منحى آخر، شكراً جزيلاً من القلب
==========
بعض ما ورد في الصحف ووسائل الإعلام
الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان
NaharNet – AFP
اترك تعليقاً