هزلت، مجدداً

أحسست بشيء من الإمتعاض حين بدأ هاتفي يرن بإصرار مساء الأمس، على ان الإمتعاض من الإتصال المتأخر تحول الى قلق عندما لمحت مفتاح البلد 961، علمت ان هناك خطب ما، على الجانب الآخر من الإتصال الدولي كانت والدتي تحييني بأبتسامة صفراء اكاد اقسم انني رأيتها عبر الهاتف! والدتي التي لا تتخلى أبداً عن عادتها في الخلود الى النوم باكراً تحاول جاهدة التأكيد انها تتصل لمجرد القاء التحية، بعد حديث العائلة والإشتياق خانتها دموعها، وصوتها المبحوج، فلم تجد بداً من الإفصاح عن سبب إتصالها.

تقول والدتي في معرض تبرير خوفها “ما بقى تكتب على الفايسبوك، بكرا بيروحوك يا ماما”، على ان امي لاتملك حساباً على الفايسبوك،  ولا علم لها بفك طلاسمه من “الشير” الى “لايك”، من المؤكد ان احدهم قد اخبرها انني “تقلت العيار” كما تقول، امي التي تعارض كل آرائي السياسية والإجتماعية، تعيش كما من اوصل لها الخبر، في دوامة من الخوف والرعب، وفي حلقة مفرغة من متلازمة ستوكهولم الداء الذي اصاب اغلبية الشعب اللبناني، دائرة اخرجت نفسي منها مبكراً، واقسمت ان احارب الطبقة السياسية التي تعتاش منها ما دام في نفس، وما دام لي اصابع تنقر على لوحة المفاتيح.

غالبية الشعب اللبناني مقتنع انه يعيش في بلد حريات، كل شيء فيه مسموح ومباح، ناهيك عن ان كل مواطن لبناني يعتبر نفسه محللاً سياسياً من الطراز الأول، الغريب في الامر ان اربعة ملايين سياسي يعجزون عن إنتاج نخبة سياسية جديدة، لأن قلة الوعي السياسي هذا، وما ان تتزاوج مع قانون إنتخاب حجري، حتى تعيد إستنساخ النخبة الرديئة ذاتها، التي بدورها تعيد اللعب على إسطوانات الطائفية والمذهبية من جهة والبروباغاندا الإعلامية من جهة اخرى، السباب والشتائم والمنابر المفتوحة على مصراعيها في هذا البلد الصغير لابد من ان تعطي إنطباعاً خاطئاً عن جو مفقود من حرية الرأي والتعبير.

لبنان بلد المنابر المفتوحة، فيه وسائل إعلامية عديدة، لم تنجوا ولو واحدة منها من الغرق في مستنقع السياسة، فهي وعلى كثرتها مملوكة إما من سياسيين، وإما من مؤسسات حزبية، وإما اصحاب أحلام الدخول الى السياسة من اسهل ابوابها، من هنا، اصبحت هذه المنابر حكراً على طرفي الازمة الآذاريين في لبنان، يتقاذفون عبرها الإتهامات، ويبدلون المواقع من الدفاع الى الهجوم بحسب ما تمليه استراتيجيات المعركة السياسية والمصالح الإنتخابية، لا مصلحة المواطن وهمومه الحياتية والمعيشية.

المنابر المحتكرة هذه دفعت صديقان لي فاض بهما الكيل الى النزول الى الشارع مساء الجمعة الماضي، هم على نقيض كامل من اهل السياسة مسلحان بالمواطنة الصحيحة والإيمان بقيم العدالة الإجتماعية، علي فخري وخضر سلامة ناشطين لبنانيين إمتشقا قاروتي دهان وشرعا في رسم غرافيتي على حائط قرب منطقة بشارة الخوري، وما هي إلا برهة حتى انقض عليهما العسكر، وإقتيدا الى اقبية التحقيق وسط نشوة إنتصار غريبة من الأمنيين كأنهم وقعوا على صيد إستخباراتي ثمين.

من لايعرف علي فخري، هو ناشط لبناني انقذ رئات اللبنانيين بإصراره على إنتزاع قانون منع التدخين في الاماكن العامة  من مجلس النواب(مع العلم انني مدخن)، كما انقذ من خلال حركة مناهضة العنصرية عدداً لا يستهان به من العاملات الاجنبيات من براثن بعض العنصريين. ومن لايعرف خضر سلامة لايدرك بأن هذا الشاب المرشح لجائزة افضل مدونة في العالم معروف على الإنترنت بإسم جوعان، هو جوعان حقاً، إنما جوعان حرية فقط، هو متخم صدق وعنفوان وعلم.

الدولة اللبنانية التي ضاقت ذرعاً بغرافيتي خضر وعلي، ترسم صورة قاتمة عن نفسها، تبدو وكأنها تحمي الحيطان لا الإنسان، ربما لأن هذه الحيطان تنوب عن الدولة في القمع احياناً فترتفع غابات الإسمنت لتخنق سكان لبنان وتقطع عنهم الماء والهواء.

خضر وعلي خرجا الى الحرية بعد إعتصام وحملة قام بها ناشطين يشاطرونهم الأمل إستعانوا خلالها بالإنترنت فشكلوا ضغطاً كبيراً على رئيس الحكومة نجيب ميقاتي المشغول بمنافسة حامية على “التويتر” فطار الى نجدتهما ليقطف الخبر في تغريداته.

علي وخضر ليسا وحدهما، وبمعزل عن همة متجددة للامن اللبناني في منع الافلام وحجبها، ونية الحكومة تمرير قانون سيء يقيد حرية الإنترنت بصفاقة، لابد من ان نذكر الفنان سمعان خوام الذي يقاوم سلطان المحاكم بتهمة رسم غرافيتي يظهر خوذة عسكرية، تحتها جسد مختزل ببندقية، ثم ساقان وجزمة عسكرية، ولاينته الامر عند هذا الحد، بل يتحول الى شيء من الهزلية عندما تعتبر الدولة اللبنانية ان الحياء العام قد خدش لأن فناناً إسمه ادمون حداد قام بإظهار جزء من ملابسه الداخلية خلال عرض مسرحي كوميدي، فتحكم عليه بشهر حبساً وبغرامة مالية بتهمة الخروج عن المألوف،  وكأن السياسيين المتراشقين بالسباب والماء على الشاشات وفي مجلس النواب امراً إعتيادياً ومألوفاً.

حقيقة ان المضحك في الامر هو تخيل فنان مثل إدمون في السجن، وسط مجرمين يتفاخرون بجرائمهم، يعددون مآثرهم في القتل والنهب والترويع، وأتسائل عن مصيره عندما يعرفون ان تهمته “كلسون”…

نشرت في صحيفة النهار اللبنانية

إعلان مدفوع

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *