كانت آلام “الديسك” والصقيع قد نالت مني وانا اسير مع صديقتي اليونانية في شوارع امستردام المتشابهة الى حد الإستنساخ، نحاول عبثاً ان نجد المسرح البلدي في “بلانتاجي كيركلان” لحضور فيلم وثائقي عن اطفال الحروب في افريقيا اصرت ان احضره معها، وبرغم الألم المبرح وافقت بعدما اوحت لي برغبتها ان نقضي الليلة معاً في سريري الدافىء، فعلت انوثتها المفرطة ذاك المساء ما عجزت عنه حبوب “البروفينيد” الأربعة التي ابتلعتها على الريق.
شهد العام 2009 تحولات كبرى، كشف معها النقاب عن ممارسات عنيفة بحق اطفال افريقيا، بهذه الجملة افتتح الفيلم بصوت جهوري وكانه يحاول ان يصرف نظرك عن المشهد على الشاشة، فتاة بعمر الورود تجبر على خلع سترتها امام عدد من الأطفال المسلحين بدوا فرحين بما تقترفه ايديهم، بينما الصورة ترتج بفعل القهقهات المتواصلة لحامل الكاميرا، لم تستطع “فيرونيكي” ان تتابع باقي المشهد، اشاحت بنظرها، اخفت وجهها بين ذراعيها، اما انا، فغططت في كوابيس اليقظة، خلت نفسي اشاهد هذه الفظاعة في بيروت.
حكايات اطفال الحرب في بيروت سمعتها عن لسان رجل قاد عمليات قتال شرسة على محاور عديدة، نجى خلالها من عمليات تصفية قادتها منظمات لبنانية وفلسطينية مقاومة وعملية، الكل أراد قتله لأنهم على عكسه، أرادوا القتال القليل، والنهب الكثير، يحكي الرجل عن حكايا شباب واطفال قضوا على محاور القتال مع عدو مفترض، بينما الأعداء الحقيقين كان هؤلاء اللذين تقاتلوا لاحقاً على اشلاء جثثهم لأن الشهداء تحولوا أرقاماً يتسولون بها مالاً وسلاحاً وجاهاً.
لزوجته حكاية اخرى، حكاية إبن شقيقتها البالغ من العمر 14 ربيعاً، انتفض على ابيه، إمتشق بندقية من خزانة تنظيم ميليشياوي وهرب ملتحقاً بالصفوف الأمامية للحرب العبثية، مقاتلاً؟ لا بل لقمة سائغة، غمست بدمه صبيحة ذاك اليوم حين خر صريعاً برصاصة قناص استقرت في رأسه، فسرقت منه الحياة وأطارت افكار حشاها في دماغه الصغير تاجر دم يتربع اليوم على احد أكبر مناصب الدولة في لبنان.
رواية الولد القتيل لم تكن لتحرك فيّ اي مشاعر دفينة، ولو انني سمعتها مئات المرات، خيل لي انا من مآس حرب مضت، لن تتكرر، وذكراها لن تعود، ستبق عالقة في ذاكرة ذاك الرجل الماركسي الصلب وزوجته الحنون، خلتها صوراً في ذاكرتهم فقط، ذاكرة بيروت القاتمة التي لن اعيشها، او اقله هذا ما ظننت الى ان قرأت بالأمس تغريدة على موقع تويتر، “أطفال مسلحون في باب التبانة”.
تملكني شعور غضب لا يوصف، رحت اشتم والعن على صفحات الفايسبوك، قلت ان الطفل المسلح يستأهل الصفع، يستأهل البصاق، على من “خلفه” ومن “كلفه” بحمل السلاح، قادني الإنفعال الى دقائق خمس من البحث على شبكة الإنترنت كي اكتب مقالة افجر فيها جام غضبي على طبقة شيطانية من تجار الدين والطائفية والسلاح يقتلون الأمل في طفولة بريئة، والحلم في نفوس شبابية، ومستقبل شعب بأسره بات تحت سطوتهم الخبيثة.
البحث على الإنترنت افضى الى نتائج فظيعة، يتصدرها الطفل المسلح في التبانة، يليها سرية من اطفال حزب الله بلباس مرقط في عرض عسكري، نماذج عن كتب للصغار تهجو ما اسمته “الصفويين” و”الروافض” ، مجلات للأطفال ايضاً عن ولاية الفقيه بعنوان المقاوم الصغير، وفيديو لرجل يعلم ابنه البالغ من العمر اقل من 3 سنوات ان يقول السنيورة “بطيزي” وبري عراسي!!
حرب بيروت القادمة ستشهد صوراً أبشع من فيلم امستردام ، صور فيلم اطفال الحرب ستتكرر، سرت في جسدي قشعريرة أعادت الى مخيلتي الصور التي رسمها لي المقاتل القديم، فتذكرت فجأة انه والدي، قصة الولد القتيل بات لها معان عدة حين تنبهت انني احمل اسمه، وان السيدة التي روت لي التفاصيل هي امي.
ذاك المساء في امستردام تلوت “فيرونيكي” امامي بانوثتها، خلعت سترتها ببطىء، استذكرنا الفيلم، فخانتني ذكوريتي وخانتها هرموناتها، لم نقوى على شيء، نمنا جنباً الى جنب، وكأننا نرفع السقف بناظرينا كي لا ينهار، بعدها بأسبوع تركت امستردام وفتاتها اليونانية، وانقطع التواصل الى الأبد.
يا تجار الدم والدين، مشتاق انا للبناني، اشتاق لمدينتي، ونبيذها، وحبيبتي فيها، اشتاق عيونها عبر الفايسبوك، اشتاق جسدها يبعث الأمل في مستقبلنا، انا في تونس اصاحب الأمل، اعد ايام الرجوع، بالله عليكم، إن كان لكم آلهة، لا تجعلوا من فيلم امستردام حقيقة في بيروت.
(الى امي في عزلتها، الى فيرونيكي وطفلها في اليونان، الى الفتاة المجهولة في الفيلم، الى حبيبتي في بيروت، وعد انني إن انجبت طفلاً يوماً، لن القنه علوم الدين، لن يكون له سوى إيمان واحد، بأن احداً لن يقوى على ان يوقف زحف الربيع)
إعلان مدفوع
اترك تعليقاً