يؤسس النظام اللبناني لحال عالمية فريدة، تستحق ان تدخل موسوعة “غينيس” للأرقام القياسية، اذ لم يحدث قط في اي بلد ان تحكمت طبقة سياسية واحدة بسير الأمور في البلاد على مدى ما يقرب قرناً كاملاً، ارست خلالها لكيان يمتلك السيطرة والسطوة على الأرض وحجارتها والعباد وادمغتها، كما في لبنان، مستندة في ذلك الى سبعة انواع من الإقطاع تمتاز بالإرتهان والإستزلام وترتبط بعضها ببعض ارتباطاً وثيقاً.
الإقطاع السياسي العائلي
في المحور الأول، إقطاعية سياسية تاريخية، وهي ولاء وتبعية تقارب العشائرية والطبقية في تطبيقها الأعمى، بحيث يرتهن المواطن الخاضع لسطوة العائلة السياسية وما يمتلكه بيتها من رصيد ونفوذ وتأثير، ويظهر هذا جلياً في ممارسات بعض الأحزاب والبيوت السياسية كالشماعنة (شمعون) وآل الجميل وفرنجية وكرامي وجنبلاط والأسعد وسعد والخازن وغيرهم.
غير اننا نلحظ ان الولاء في هذا المحور بدأ يتزعزع، ويرجع أفول نجمه الى تعاظم نفوذ محاور إقطاعية اخرى، فنرى ان سطوة آل الأسعد خمدت جنوباً مع عدم وجود وريث قوي للسلالة الأسعدية اولاً، وتعاظم المد اليساري ومن ثم الديني وتخلي أهل الجنوب عن مقولة البك الأسعدي الذي قال يوماً لوفد جنوبي يطالب بمجانية التعليم “لشو بدكن مدارس؟ انا ارسل كامل لتحصيل العلم وهذا يكفيكم”. وفي مثال آخر نرى آل سعد في صيدا الذين حاروا في سبل محاربة الإقطاع المالي الحريري، فاختاروا ان يذوبوا ملحقين بخط سياسي يضمن ان يبقى لهم في صيدا رمق أخير. كما ان تراجع هذا المحور ليس مرتبطاً بالدين والمال فقط، بل بالتخبط في المسار السياسي أيضاً، وبروز نزعة المحاسبة والمساءلة لدى عدد من المناصرين، كما حدث مع حزب الكتائب اللبنانية الذي أفلت من عقال آل الجميل قبل ان يعيد بيار الحفيد رص صفوفه قبل اغتياله. الأمر نفسه في الجبل الجنبلاطي، فسياسة “الزحلقة” بين اقصى اليمين واليسار التي يتبعها النائب وليد جنبلاط ادت الى خروج عدد من أزلامه التاريخيين من كنفه، ومثال على ذلك مشاركة عدد من الإشتراكيين في احتفالات 14 آذار، ومن ثم تمرد نواب في كتلته في الإصطفاف الأخير يوم الإستشارات الملزمة التي افضت الى تكليف الرئيس نجيب ميقاتي تأليف الحكومة.
الإقطاع الكاريزماتي الحزبي
في محور آخر أكثر ديكتاتورية، نرى الإقطاع الحزبي، الذي يتمثل بسيطرة شخص كاريزماتي على مقاليد القرار مازجاً السيطرة والقوة بالعائلية والطائفية للبقاء على رأس الهرم السلطوي للحزب (لا المنطقة على عكس الإقطاع العائلي السياسي)، فيما قد يُصب على المزيج أحياناً بعض من عنتريات الحرب والباع الطويل في العمل العسكري، والمثال الأبرز على الإقطاع الحزبي المنتشي بالهالة الكاريزماتية هو النائب العماد ميشال عون وتياره، العسكري السابق الذي بنى زعامته على كاريزما وتاريخ من مقارعة السوريين مستعيناً بتمويل عراقي وليبي عسكري حتى يوم هروبه، وصولاً الى شهادته في الكونغرس الأميركي لمصلحة محاسبة سوريا، ليعود بعد ذلك منقلباً على ذاته، مكرساً مقدرات تياره للعائلة ومن حولها من منتفعين وشركات فانفضّ كثيرون من حوله.
في حالة اخرى من الإقطاع الحزبي الكاريزماتي يظهر مثال رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع الذي يستند في بناء جماعته الى تاريخ من النضال الميليشيوي العسكري خلال الحرب. غير ان ديكتاتورية جعجع “القواتية”، وبفعل شيء من الثبات في الموقف معطوفاً على زيادة الجرعة العاطفية، كالورود التي تقي من الرصاص، نجحت الى حد ما في كسر الصورة النمطية التي ارساها السوريون في لبنان على انه مجرم الحرب الوحيد دون غيره، كما استطاع الرجل المرسوم على هالة قديس إعادة لمّ شمل عدد من رفاقه، إلا انه وقع منذ اليوم الاول لخروجه من سجنه في الخطأ والمطب العوني في استبعاد بعض من شركاء نضاله لمصلحة من وقف الى جانب زوجته خلال السنوات التي أمضاها سجيناً في وزارة الدفاع.
الإقطاع السياسي المالي
وجه آخر للإقطاع اللبناني، هو إقطاع المال، بحيث يرتبط المواطن بمشغله ووليّ نعمته المادي. تمتاز هذه المقاربة بولاء يتبع سيل المال في الجيوب. تأتي الإقطاعية المالية من فكرة وجود رأس متمول يجمع حوله المحاسيب بالمال والخدمات قبل الفكر والعقيدة، حاول كثيرون يوماً ان يفعلوها الى ان شحّت مواردهم فانفضّ الناس من حولهم خصوصاً مع غياب تمويل البترو دولار الخليجي، وأبرز من قاد هذا النوع من الإقطاع السياسي هم آل الحريري وميقاتي وفارس والصفدي ومخزومي، وان لحظنا هنا الطابع السني الغالب، يكون مرده الى غياب النهج السياسي الواضح كأحزاب، ما يستلزم ربط المسار السياسي بشيء من المال لبناء الزعامة وضمان ولاءات عدد من المنتفعين ورجال الأعمال.
يستقي الإقطاع المالي قوته ايضاً من غياب الدولة، وضعف تقديماتها الإجتماعية، فيكون المدخل الى السياسة في معظم الأوقات من المعبر الخدماتي العلمي والإجتماعي، على هيئة مؤسسات خيرية تشتهر بالتقديمات، مثل مؤسسة الحريري التي ارسلت الآلاف من الطلاب الى اكبر المدارس والجامعات في لبنان والعالم مستندة الى ثروة الحريري الطائلة والبترودولار السعودي، ومؤسسة مخزومي التي يقال ان رئيسها يلزم العاملين فيها والمستفيدين من خدماتها الإنتساب الى حزبه السياسي، كذلك يفعل الصفدي ومؤسسته عبر التقديمات الإجتماعية ونشاطاتها الثقافية، وصولاً الى جمعية شباب العزم التي يحرص ميقاتي على دغدغتها بالمال لتعويمها كلما اقتضت الحاجة السياسية والإنتخابية. وطبعاً لا يغيب “حزب الله” عن هذه الممارسات، عبر مؤسسات شهيد الثورة الإيرانية التي تتبعها مؤسسات مدرسية وخدماتية كـ”جهاد البناء” التي تنوب عن وزارة الأشغال في الجنوب والضاحية، ومدارس “شاهد”، والهيئة الصحية الإسلامية ، ثم الوجه الأبرز لهذه التقديمات مع ظهور اكثر وضوحاً للمال القطري قبل ان يصبح وبالاً وفساداً وسيارات دفع رباعي، واخيراً صنابير المال الإيراني المفتوحة على مصراعيها.
الإقطاع الديني المذهبي
لا شك في ان الإقطاعيات السياسية اللبنانية تنتهج الطائفية وسيلة أساسية تدعم ركائزها، ورغم عدم كونه الوحيد الذي يلجأ الى هذا الإسلوب، إلا ان “حزب الله” هو أكثر المنظرين قسوة لهذا للإقطاع الديني المذهبي، بحيث يشكل المذهب الشيعي العمود الفقري الأوحد للحزب إذا ما قسنا نسبة مؤيديه كحزب سياسي بعيداً من مؤيديه لمقارعة العدو الإسرائيلي، تعتمد إقطاعية الحزب على إقناع المؤيدين بفائض القوة والعظمة من جهة وتحريضهم على الدولة من جهة اخرى. على ان ما يدرج “حزب الله” فعلياً في هذه القائمة هو التحول الذي اصاب اهل الجنوب والبقاع مثلاً في عاداتهم وتقاليدهم ونمط عيشهم على مستوى ديني – فقهي ومجتمعي في المقام الأول، بدءاً من التعليم الديني في المدارس وإدخال ثقافة القوة هذه الى مناهج الدراسة للصغار (مجلة احمد ومهتدي والمقاوم الصغير، والمؤسسات الكشفية…) وصولاً الى الكبار، فأهل الجنوب الذين اعتادوا السهر والسمر وخبريات المصاطب، اصبحوا اكثر انطواءً في فقه جديد يفرض الإلتزام والقواعد الشرعية والتشدد في الحجاب على الانموذج الإيراني، الأمر الذي غيّر طبيعة اهل هذه المناطق المنفتحين ونقلهم الى حالة اجتماعية مغايرة تماماً، ثم في مكان آخر تبرز الديكتاتورية الشرعية، بحيث يلزم المؤيدين تكليفاً شرعياً يحدد لهم الحقوق والواجبات السياسية كالتصويت والإقتراع والتأييد وغير ذلك، ما يلغي تماماً حق الفرد والإنسان في تقرير مصيره ليترك الامر لوليه السياسي – الديني.
يرتكز رصيد “حزب الله” ايضاً على ضيق هامش الإنتقاد المتاح، فالأسم مرتبط بفعل مقاومة العدو الإسرائيلي اولاً، ما يضع المعارضين في خانة المُخونين والمشبوهين، وثانياً الهالة الدينية القدسية حول قياداته التي تجعل انتقاد أدائها السياسي حصراً ضرباً من ضروب المغامرة والجنون.
الإقطاع اليساري
في محور آخر من الديكتاتوريات السياسية، نرى “الإقطاع اليساري”، ومع انها عبارة غير موجودة في قواميس العلوم السياسية، الا انني شئت ان استحضرها لأنها تلامس وتقارب الواقع المرير لليسار اللبناني الذي لم يكن يوماً إلا جزءاً من الصراع. يمتاز اهل اليسار في لبنان بديكتاتورية غريبة مبنية بالمطلق على خطاب سياسي يتجاهل الواقع المحلي في ما عدا بعض التظاهرات التي امست فولكلوراً لا حركات مطلبية ضاغطة. يجعل الإقطاع اليساري القضايا الاقليمية والأممية في طليعة اهتماماته، فيضيع معها انحياز اليسار الى قضايا العمال والفلاحين والبسطاء والمهمشين ومطالبهم الحياتية المحقة، ليدور في اسطوانة خطاب التخوين ومحاربة الصهيونية والرجعية والإنعزالية والإمبريالية وغيرها من الجمل النخبوية العريضة التي لن تصل أبداً الى مستوى خطاب المواطن العادي، ولن تسد له رمق، ولن تغنيه عن عوز ولن تحل بديلاً من عبارات تجييشية طائفية ومذهبية تبدو أكثر جاذبية للمواطن الباحث عمن ينقذه من أزمته، ناهيك عن غياب التجديد على مستوى القيادة والإستبعاد الديكتاتوري للمعارضين، الأمر الذي يسر اصحاب الرجعية والصهيونية والإمبريالية وكل المصطلحات العريضة التي يستعملونها قبل غيرهم.
إقطاعيات المحسوبيات والكراسي
كأحد محاور الإقطاع في لبنان، كان لا بد من ذكر إقطاعيات المحسوبيات والمناصب، وهي عادة ما تختص بمن افتقر الحسب والنسب الإقطاعي، ومن ثم المال، والخطاب السياسي والديني، ولم يعد له من ركيزة إلا كونه جزءاً من تركيبة النظام اللبناني، فيستعيض عن المال ببناء إمبراطورية التشغيل والمحاسيب والواسطة، وإن كان هناك مختص بهذا النوع من الإقطاع فهو بكل تأكيد رئيس مجلس النواب نبيه بري وحركة “أمل”، التي يبدو انها اممت “حزبياً” بعض إدارات الدولة كمجلس الجنوب ووظائف مجلس النواب وسرية حرسه، وغيرها من الإدارات لمصلحتها وجعلتها ملاذاً لتوظيف الفائض الحزبي، ومدخلاً الى الحفاظ على ما تبقى من شعبية لارث حركة “المحرومين” وبعض المصالح الإنتخابية.
إقطاعيات المجتمع المدني
هي التي قد تستأهل الحصة الأكبر من الجلد والعتب، فبدلاً من ان تتحفنا نخبة المجتمع المدني اللبناني ببرامج التنوير والتثقيف ورفع مستوى الوعي الشبابي اجتماعياً وسياسياً وصولاً الى غرس ثقافة التغيير، نراها منسجمة مع الأداء السياسي الهزيل، فلا تستطيع حقاً ان تمارس اي دور رقابي فاعل على أداء الحكومات المتعاقبة، حريرية كانت أم كرامية أم ميقاتية، حتى باتت في غالبيتها صورة عن هذه الديكتاتوريات الجامعة للمال، تبني نفوذاً من واقع التمويل المكثف والخدمات والمنفعة المتبادلة وتتصارع فيما بينها لكسب ود المانح الأجنبي. أما من يرأس هذه المنظمات، وهم في غالبيتهم في طليعة المنظرين للديموقراطية وقوانين الإنتخاب على الشاشات وفي الجرائد، فامتهنوا الإلتصاق بكراسي منظماتهم تماماً كما المسؤولين في بلد الإقطاع السياسي.
قصد السبيل
إن أردنا نحن اللبنانيين على اختلاف مللنا ان نصل يوماً الى استقرار سياسي يتصل بواقعنا المعيشي اليومي واقتناعاتنا، فلا بد من ان يتخلى معظمنا عن التبعية المطلقة للإقطاعيات الديكتاتورية التي نعيش في ظلها، وان يمارس هؤلاء دوراً محاسباً ضمن احزابهم التي لا تنفك تغير خطابها السياسي متلونة كالحرباء، ثم يتوجب علينا ان ندرك مصيرنا المشترك، وان نجد الحد الأدنى من التفاهم لا على الهوية الوطنية، بل على ارضيتها المشتركة، هذا الأمر غير متاح ما دام فعل المحاسبة والمساءلة مفقوداً، ومصطلحات الحكم الرشيد محصورة بمحاضرات مؤسسات المجتمع المدني، فاللبنانيون بفعل هواجس الخوف الطائفي والعوز الخدماتي يعمدون الى إعادة تدوير الإقطاعيات باختلاف اشكالها، مبتعدين عن تصنيع نخبة سياسية جديدة، من الشباب الخام، واصحاب الكفاية والمعرفة والقدرة على وقف الهدر لا توظيفه سياسياً، وعلى رفع مستوى المعيشة لا الإتجار بالمواطن، وعلى إيلاء مصائبنا المحلية الأولوية القصوى، وعلى الإصطفاف خلف المواطن لا خلف تحالفات ومصالح 8 و14. على كل مواطن لبناني يؤيد حزباً او حركة او تياراً او تجمعاً ان يدرك ان هؤلاء يسيرون في ركب مختلف بعيد عن حاجاته اليومية، عن حاجته للضمان الإجتماعي والطبابة والخبز والحرية وسبل العيش الكريم، هؤلاء يكتفون برمي فتات الأموال التي جمعوها من جيوب المواطنين يوم تعز الأصوات الإنتخابية، ليضمنوا بها جولة جديدة من الكسب غير المشروع.
نشرت في صحيفة النهار اللبنانية بتاريخ 17-5-2012
إعلان مدفوع
–
اترك تعليقاً