باكراً يحل المساء في تونس، فتخلع المدينة المنهكة عنها رداء النهار، وتلتحف هدوء الليل ونجومه، تخمد الحركة في شارع الحبيب بورقيبة، فترتاح كراسي المقاهي من ثقل الجالسين عليها ليل نهار، ومن تذمرهم المستمر من البطالة ، تضاء المنقيلة (الساعة) فتأذن للاحلام الليلية بالتسلل من النوافذ، تخلد العاصمة الى النوم دفعة واحدة وكأنها تنتظر هذه الأحلام التي باتت شرعية ، الحق في الحلم، أول مكتسبات الثورة.
بالنسبة للبناني المقيم في تونس كحالي، كان من الصعب ان استأنس بنمط الحياة في تونس، وان اكسر رتابة الحياة الباهتة فيها، وانا المعتاد على “هاجوج وماجوج” من السياسة وقرقعة الكؤوس والأنخاب النخبوية في حانات شارع الحمراء البيرتي. من هنا، كان البحث عن حمراء تونس، اين هي؟ اين اصحاب ماركس، هل من مودكا هنا؟ هل من أبو ايلي؟ اين ابنة عمك “سيلتيا” يا “المازة” ؟
“اول المفترق على اليسار” يشير السائق التونسي الى مقهى “المعازيم”، هنا تختبىء تونس، إذن هي وجهتي هذا المساء، المقهى المنار فوق العادة و “الوان مان شو” لاينبىء كثيراً بما تخفيه السهرة، فيروز وحبيبها الذي احبته فأنساها النوم تؤنسني على الكرسي الى حين وصول النادل، لا لائحة اسعار ولا خيارات مطبوعة سلفاً، يمليها النادل عليك بفرنسية مهجنة بالتونسية، لا كحول هنا بعد الثورة، كثرة اعداد الليبيين تجعل الأمر غير مستحب يقول النادل، خيبة يمحوها مزيد من الأغاني اللبنانية والتونسية وكأس الليمون الذي وصل على عجل.
يتغير فجاة وقع الأغاني، ترتفع وتيرة الحماس، يقترب شاب بيد نال الجبس من معالمها، يرشق المغني بعشرات من الدنانير، ويشير بعلامة النصر، انها شيفرة على ما يبدو، فيسارع الأخير الى مدح ليبيا الحرة، فتشتعل الصالة بأكملها بالرقص على وقع اهازيج بنغازي، شاب آخر يتضم الى ما بات يشبه حلبة التحدي، يرشق المغني بالمزيد من الدنانير، فتتحول الأغنية والتحية الى مصراته، يكررها الثالث لينقذ شرف بنغازي بحزمة دنانير أخرى.
على الطاولة امامي فتايات يتغامزن، يصعدن الى ساحة الرقص، تشتعل المنافسة، ويلعلع الدينار في الهواء كرصاص الإبتهاج، ودائماً بليبيا الحرة.
بحسب رشق الدينارات، تنتقل الفتايات كحجر الداما من زاوية الى زاوية في حلبة الرقص، يقع الخيار على احداهم، يتأبطها الرجل، ويرحل، وطبعاً لا ينسى ان يطلب تحية مطعمة بخمسون ديناراً، مجدداً الى ثورة ليبيا الحرة.
يبدو ان الليبيين في تونس هو خليجيو لبنان، الفارق الوحيد ان لاثورة في الخليج، بل شيوخاً بلحى متدلية وسيارات فارهة، وعيونهم التي تلاحق الأفخاذ اللبنانية، ولعابهم السائل على شقراوات “الداون تاون”.
تخنقني رائحة النرجيلة، استعجل الحساب لأرحل، فيما المغني الذي بات متخماً بالدنانير يمازح الليبيين بعبارة القذافي “من انتم؟”، لاشك انه سؤال سيعجز هؤلاء على الإجابة عنه ولو ارادوا.
هنا تونس، وهنا حي النصر، حيث شرف ليبيا “الحرة” ودماء شهدائها يبيعه المخبولين بعشرة دنانير بالتمام والكمال.
22/05/2012 نشرت في صحيفة السفير اللبنانية
اترك تعليقاً