لا حلول وسطية مع زياد الرحباني ، الإنقسام حول الرجل وآراءه عامودي، إما معجبون مهووسون، وإما كارهون لحد الحقد، زياد الرحباني ليس جديداً على عالم السياسة، ومواقفة التي تتخذ الطابع القذافي في غرابتها ليست بجديدة ايضاً، هو يمارس السياسة عبر الفن منذ بداياته المسرحية والإذاعية، لذا فأن انزلاقه الى عالم الكتابة من اغرب ابوابها كان امراً متوقعاً، كما كان من المتوقع ان يغرق زياد نفسه في مستنقع السياسة اللبنانية، هذا المستنقع حيث لا يصلح الأرشيف والتاريخ الفني لأن يكون طوفاً او طوق نجاة من تجاذباته.
لاشك ان الرحباني نفسه يدرك هذا الأمر، وربما لهذا السبب ابتعد عن حزبه في البدء، ومن ثم عن شريحة كبيرة من جمهوره، وربما ايضاً يكون السبب امام انقطاعه، ومن ثم عودته الى صحيفة الأخبار برتبة كاتب “مانيفستو”.
الإنقسام الموجود على الساحة اللبنانية حول قضايا الجوار انعكس انقساماً بين محبيه، منهم من اختار ان يتبعه “عالعمياني” كما يتبع أرباب السياسة والطوائف، آخرون فضلوا ان يميزوا بين زياد الأمس وزياد اليوم وكأنهم يفصلون الرجل على مقاسهم، فيما فضل البعض ان يقطع آخر شعرة نوستالجيا تربطه بكل ما قدمه زياد على مدى سنوات.
حملت الإطلالة الأخيرة للرحباني على قناة الميادين جملة من التساؤلات، ظهر زياد فيها بموقع المربك ولو متخفياً بسخريته المعهودة ومواقفه الغريبة، ولعل اغربها هو الحل الذي قدمه لما اسماه الإعلام المتفلت، مطالباً قائد الجيش اللبناني بالتدخل لأنهاء هذه الظاهرة على حد زعمه، وهنا المفارقة بأن يتحول الرجل الذي انفرد لوقت طويل بأنتقاد السيطرة الأمنية وعسكرة النظام اللبناني و”سورنته” مخابراتياً، الى مسوق لنظرية إنقضاض العسكر على الإعلام ومصادرته للرأي وحرية التعبير.
لا يختلف اثنان في لبنان على ان الإعلام اللبناني، والى جانب المصداقية، قد خسر كثيراً من ماء الوجه وعكر صفحة العديد من مواثيق الشرف الصحفية، والأمثلة كثيرة، من السعي وراء الخبر على حساب جثث المواطنين وأحزانهم، الى التمادي في التحريض الطائفي والمذهبي والعنصري، وصولاً الى الفبركة احياناً وهي الدرجة القصوى من سوء الآداء، غير ان المسبب لكل ذلك هو التبعية المطلقة لكافة وسائل الأعلام اللبناني إما لأحزاب سياسية، او شخصيات نافذة محسوبة على نهج سياسي، او مشاريع سياسيين واصحاب نفوذ مالي وإجتماعي، افرزت جميعها ديكتاتوريات اعلامية مصغرة، الغت التعددية في الآراء، وكرست سياسة الرأي الواحد.
كل ما سبق، وكل ما كتب او قيل عن الإعلام اللبناني من سوء الآداء وقلة المهنية، هو صحيح، إلا انه لا يجوز أبداً من ناحية الحرص على الحريات العامة والخاصة والفنية خصوصاً ان يصدر عن فنان دعوة لعسكرة السيطرة على وسائل الإعلام، فهذا قمع بوليسي، اين منه ديكتاتورية فرانكو الأسباني.
لاشك ان لزياد الرحباني جمهور على شاكلته، يستنسب القضايا ايضاً، ويمنح نفسه هامشاً من الحرية يحرمها على الآخرين، وأولها حرية عدم الإنخراط في نادي معجبي زياد، بالنسبة لهؤلاء زياد من المقدسات والمسلمات التي لا يجوز انتقادها، حتى بات كل من يجروء على الإعتراض على كلام الرجل مجنوناً، او سفيهاً، او مندساً، او أخرق لا يفهم بالموسيقى، او حتى ساع وراء التمايز عملاً بمبدأ “خالف تُعرف”، هكذا باتت التهم معلبة وجاهرة، طبعاً هم سيعذرون زياد في كلامه على القمع الذي يطالب فيه، هو، على ما يبدو، قد امسى ديكتاتورهم المنزه.
يجمع الأغلبية ان زياد الرحباني فنان، ومن طراز نادر، عسى ان يكون، ومعجبيه اسماً على مسمى، وان يتحلوا بشيء من “الرحابة” في تقبل النقد، قبل ان يتحول هو الآخر لأيقونة إلهية ديكتاتورية مخابراتية مقدسة، نمت شهرة زياد على محاربتها وانتقادها، فكيف يصبح المنظر لها؟ كيف يصبح الجمهور الداعي الى كسرها هو المدماك الأول في تكريسها والتسويق لها؟
في زمن الشعوب التي تصنع التغيير والتحرر، (والتي بالمناسبة سفهها زياد ايضاً)، يبدو ان إستعارة زياد لرأي فيروز السياسي والجمل التي وردت على الفايسبوك من قبيل “جميل ان يكون رأيي في السياسة كرأي زياد وفيروز” لن تخدم طويلاً، فالقطار انطلق والشعارات عادت الى عرينها، حبراً على ورق، لا تغني عن عوز، ولا تسمن عن جوع، ولا تحجب الحرية ولا نور الشمس.
[نشرت كأفتتاحية موقع بيروت اوبزفر على الرابط التالي ]
اترك تعليقاً