لم أكن يوماً بوارد التحزب، ولا الأنتماء سياسياً، كنت اضحك وانا اسمع اهلي يكررون على مسمع الأقارب حادثة فعلتها في المدرسة، كانت مكتبة المنزل تعج بالصور، تحتها تمثال نصفي للينين، كان يخيفني في صغري بلحيته المدببة، فأضطروا ان يقنعوني وقتها بأنه “جدي لينين” الرجل الذي اعاد الحق لأصحابه وقضى على الظلم بيديه العاريتين، ونحن يجب ان نكون على شاكلته، لا نكذب ولا نحب الظالمين. لم يكن “أبو وليد” ليتوقع انه في حصة اللغة العربية ستستدعيني المعلمة الى اللوح، حتى احدث زملائي عن احد افراد العائلة، وطبعاً لم اختر إلا “جدي لينين” لاتحدث عن انجازاته، يومها جن جنون المدرسة بأكملها، طفل مغسول الدماغ يحاضر بالشيوعية! طبعاً اوقفتني عن الكلام وصرخت بي وقالت ان لينين هذا رجل اخرق، ثارت ثائرتي!! لم اكن على استعداد لتقبل الفكرة ان “ابو وليد” قد يكذب، وان لينين ليس جدي الحقيقي، فما كان بي إلا ان قفزت الى الطاولة مقلداً طرزان، متمسكاً بخصل شعرها لأقع انا واياها على الأرض.
في تلك المرحلة، استولى الدين على الشارع، فأختفى الرجال الحمر وصورهم، ومعها وضب اهلي كتب مهدي عامل، واودعوها في صناديق محكمة واخفوها، حتى تمثال لينين المذهب قبع في درج مقفل، وباتت السياسة والحديث فيها من الممنوعات، وانقطع والدي عن اصحابه.
أذكر في بداية التسعينات، اعلاناً كانت محطة الـ ICN تبثه كل خمس دقائق، كان الأعلان يدعو الناس التى التظاهر، كانت الأغنية حماسية، لا أزال اذكر كلماتها ولحنها حتى اليوم، تقول الأغنية “الحرية مش غنية، الحرية مش عنوان، ولا كلمة ثورية مكتوبة عالحيطان، 29 شباط.. ما تنسوا هالتاريخ”… في الواقع لم اكن بالوعي السياسي الكافي وقتها لأذكر المناسبة، انما أذكر ان الحكومة اللبنانية حينها اعلنت حظر التجول، كما اذكر ان سياط المخابرات أدمت وأسكتت كل من نزل الى الشارع ذلك اليوم المشؤوم.
في السنوات التي تلت أسس حراك المنظمات الطلابية في الجامعات وعلى رأسها جامعة القديس يوسف نهجاً جديداً من المواجهة أرعب السلطات، فأشتد القمع، اكثر من ذي قبل، ولم يعد يفرق بين موال ومعارض في بعض الأحيان، كانت انتفاضة حقيقية من أجل الخبز والحرية، كان ان بدأ الشباب يغلي، كانت المنظمات الطلابية على تنظيم مرصوص عجزت المخابرات عن فك لغزه، كان يقود تلك المنظمات والحركات طلاباً اشتد عودهم السياسي على وقع الضرب والقمع.
سرى الغليان في كل مكان، في العام 1998 كان الجميع منشغلاً بمتابعة نهائيات كأس العالم، فكانت الحجة المناسبة للخروج من المنزل ليلاً لحضور اجتماعات طلابية، في ظل حصار فرضه والدي على اي نشاط معاد للمخابرات والسلطة بحجة ان “للحيطان آذان”. لم يكن الرجل بوارد ان يسترجع ولده المراهق جثة مذابة بالأسيد ولا كتلة لحم رخوة انهكها الضرب كما حدث مع كثيرين.
في العام 1998 كنت اتحضر لأمتحانات الدورة الثانية من الشهادة الرسمية كوني رسبت في الأولى، فكنت اخرج بحجة الدراسة لألتقي بـ “سهى” لنذهب سوياً الى مكتب تنظيم سياسي، هناك وعلى نحو غريب قام المسؤول بترفيعي لدرجة ان نصبني مكانها مسؤولاً عن المكتب الطلابي مكانها، فقطعت علاقتها بي، ومعها انقطعت محاولاتي كمراهق بائس ان افقد عذريتي معها في حمام المكتب.
مهمتي الحزبية الأولى كانت ان اكتب نصاً يشرح لماذا نعادي السوريين جميعاً (نظاماً وشعباً وعمال) وكيف اننا كلبنانيين ارفع بدرجات، لنوزعه على الأنصار الجدد، عبثاً حاولت ان اقنع “ح.ي”، المسؤول المباشر عن ذاك المكتب، ان في ذلك خطأ عنصري مميت، ومهما حاولت، كان الرجل سياسياً محنكاً، ولم تكن المبادىء السياسية الهزيلة التي حفظتها لتقارع بلاغته. انتهى الأمر بكتابتي بيان طبعته للمرة الأولى في تاريخ ذلك التنظيم المشؤوم على الكمبيوتر، حوى البيان وجهة نظري، حتى بالرغم من سطحيتها في السياسة، لم يحملها الرجل، فطلب مني عدم الحضور من جديد.
بعدها بأسبوع واحد، وبينما كنت في محل الكمبيوتر، دخل رجل ضخم، جذبني من قميصي، واصطحبني مرغماً الى مبنى في منطقة الرويس حولته المخابرات السورية الى مقراً لها، لم يكن بكائي وخوفي الظاهر ليشفع لي، كان ان نلت نصيباً مرموقاً من الشتائم والصفع، الى ان ادخلوني الى غرفة جلس فيها ظابط وبيده نص البيان الذي كتبته، عد السطور، كانت 21 سطراً، اصدر بموجبها حكماً بصفعي 21 مرة، نفذه العنصر الواقف قربي بحماسة وسادية شديدة. وحذرني ان العقاب القادم قد يكون على عدد الكلمات، وربما الحروف. ولم يتركني اذهب إلا بعد ان خف الأحمرار على وجهي. في البيت، كان “أبو وليد” قد اعد لي استقبالاً مشابهاً لأن الساعة قد تجاوزت منتصف الليل. لم اجروء على الإعتراف، فالضرب بسبب اللعب في مقهى الأنترنت خير من ان يعلم حقيقتي، ليس في منزله مكاناً للرجعية والأنعزالية على ما كان يقول.
أمور كثيرة تكشفت ذاك الأسبوع، علمت ان لسهى اخ امسكته المخابرات “يتكلم في السياسة” فوشى بالجميع وانا منهم، وان المسؤول الحزبي امر بترفيعي لأنني من طائفة مختلفة، بالتالي اتخذني ساتراً يخفي وراءه طائفيته المريضة، الأكتشاف الأكثر ايلاماً كان ان ارى “سهى” في احضان ولد آخر، يومها فعلت بي هرمونات المراهقة ما لم تفعله صفعات رجل المخابرات… (يتبع)
(الى خطار طربيه، أحد ابطال تلك المرحلة)
اترك تعليقاً