عبثاً حاولت أمي ان تقنعني بتناول صحن البامية الذي حضرته، مستندة الى تجربة إخوتي المهاجرين، هم لم يتناولوا البامية قط، إلا عندما تزوجوا وبات لهم عائلاتهم وبيوتهم الخاصة، هي على إستعداد في هذه اللحظة ان تكلفني عرساً وبيتاً وأولاداً وحفاضات، وأقساط المدارس، وجبال الهم والغم في سبيل البامية، بالرغم من معرفتها المسبقة بعدم قدرتي على إحتمال لا شكلها ولا رائحتها، لم تيأس أمي يوماً من إصرارها على طبخة البامية كلما حطت بي الطائرة في بيروت خلال ترحالي المستمر.
تجزم أمي مسبقاً بأنني لن اتناول ولو ملعقة واحدة طبقي، مع ذلك تمعن في تسخينه وتزيينه لتقدمه لي، مفترضة انني سأخضع للأمر الواقع، مع ذلك دائماً ما أجد حلاً، إما عبر “الديليفري” أو اللجوء الى الملاذ الأخير، صحن اللبنة اللبنانية الأصيلة التي هجرتها منذ ان سافرت الى تونس، تعتقد أمي بأن البامية واجباً مقدساً، وإن كرهها أمر مستحيل، ضرب من ضروب الخيانة لتقاليد الطبخ، إنهزام أمام الهامبرغر، خضوع أمام الستيك. “مش ناقصة” يا أمي، فبعد المخابرات، وجريدة الأخبار، وقلم خضر عواركة الأصفر، أمي تعطيني الإنطباع بأنني عميل وخائن لمجرد انني لا أحب البامية.
بامية أم وليد، فرض واجب، مقدسة، شأنها شأن كل ما يؤله وينزه، لأن الإختلاف في مجتمعها بات مصدر خوف وقلق، حتى اعتاد الناس على ان يكونوا “صبة واحدة” جميعهم يأكلون البامية رغم كرههم لها، كلهم يشاهدون ذات المحطة خوفاَ من ان يسمعوا وجهة نظر مختلفة، كلهم يستعيرون نكات الرحباني رغم قدرتهم على إستنباط ما هو أكثر إضحاكاً منها.
على سيرة الرحباني، الرجل بات كالبامية، برخصها وتأليهها، غالباً ما تتجاذب أطراف الحديث مع آخرين، تمتعض من كثرة إستخدامهم لنكات الرجل فيتهمونك بالأختلاف، وكأن الإختلاف تهمة لا غنى، هل تجرؤ علانية على التصريح بأنك لا تستسيغ الرجل؟ أبداً، ألف من سيتطوع للدفاع عنه، فيما انت ببساطة لا تحبه، حتى ذاك الحق في التمايز انت محروم منه في مجتمعك المصاب بهستيريا متلازمة ستوكهولم. اليس من حقي ان لا أحب الرجل؟ دعك من الرحباني، الخوف من الإختلاف ينسحب على كل شيء، فمثلاً عندما تجرأ صديقي فريد على إنتقاد سعد الحريري في طريق الجديدة، امضى إسبوعاً يتفحص البراز كلما استعمل الحمام ليتأكد ان أسنانه التي ابتلعها قد خرجت، صديق آخر صرح علانية امام زملاء العمل بأنه لا يطيق تدخل رجال الدين في السياسة، فأنتظره اشاوس من حزب الله على مدخل الحارة وزفوه مضرجاً بدمائه الى مدخل بنايته، بالرغم من ان المسكين كان يقصد البطريرك الماروني في تعليقه!
لا تقتنع أمي بأنني لم أحب البامية يوماً، تصر على انني كنت اتناولها في السابق، كذلك تستغرب كيف أزلت صور الرحباني من خزانتي، لا تستوعب انني انبت خلال السنوات الماضية حساً من النقد السياسي يتجاوز الإستسلام للنكات كسبيل للإعتراض، وهي منذ ان عدت من الإعتقال ذات مرة مسنوداً على عكاز تبكي وتلطم وتهاتفي الى تونس كلما انتقدت زعيماً سياسياً ولو عبر الفايسبوك، “ليش عم تحكي هيك؟ الجماعة أوادم، دخيلك يا أمي بيروحوك برصاصة، أهل السياسة مجرمين بلا رب”، اي رصاصة هذه يا أمي؟ وأي رب؟ لا بل اي مجتمع هذا يا أمي الذي يدرك انه مظلوم، ويدرك من الظالم، ولكنه ينصاع له ويدافع عنه! لو الجماعة أوادم يا أمي لما توجستي من رصاصهم. إيفترض بي ان أحبهم مرغماً كي لا أكون مختلفاً؟
فُض خلاف البامية على مضض، أرسلت أمي صحن البامية الى جارنا، الرجل يجب البامية، تطوعت ان اوصل الصحن بنفسي لأن صعود الأدراج المعتمة في زمن “فاطمة غول” ليس بالمهمة السهلة عليها وقد تجاوزت الستين، شكرني الرجل على البامية، وجلس يلتهمها فيما التقط انفاسي، بالرغم من فمه الملآن بالطعام ينتقد الرجل بشدة ظهوري على التلفزيون منتقداً التمديد، “على شو نازل تتظاهر ب 20 الشهر؟ ما هيي ذاتها، حتى لو إنتخبنا رح يطلع ذات الحرامية”، حسناً، اقله ان الرجل يعلم انهم لصوص، وانهم بعد جيبه يسرقون صوته، ولكن ما العمل؟ هل يجرؤ ان يقول لا فيما زعيمه وقدوته يقول نعم؟ ماذا سيقول يوم يحرموه من البامية؟
أمي، لست وحدي من يصاحب اللعنات في مجتمع النعم، سأقول لا، هذه ثورتي الصغيرة على صحن البامية وصور الرحباني، والتمديد.
اترك تعليقاً