كي لا يقتلكِ أتاتورك

attaturkانتصف النهار فيما لا أزال انتظر آيسون بقلق، فأن تأخرت ولو قليلاً سيفوتنا القطار، وسيتعين علينا ان ننتظر نصف ساعة اخرى، أو ان نسير على طول الشارع الذي يخترق قلب امستردام وصولاً الى ساحتها القديمة. وفيما انا اصاحب اللعنات وصل القطار، توقف عند المحطة، امتلأ بالمتجمهرين حتى التخمة، ورحل.

رحت افكر في طريقة اعاتب بها آيسون، فهي منذ ان بدأنا نتواعد، منذ اسبوعين، لم تستطع ان تلتزم بالموعد المحدد ولو لمرة واحدة، عزيت الأمر أولاً الى طباعها التركية، ثم حاجتها الى التبرج، ثم الصدفة، غير ان هذه المرة لن تستطيع ان تقدم عذراً يبرر انتظاري على قارعة الرصيف المتجمد. لكن كيف السبيل الى معاتبة آيسون؟ هي على عكس اسمها الذي يعني “الخضوع” بالتركية، لها طباع حادة تذيق الرجال الحصرم كما نقول بالعربية، فكيف بي وانا المتلهف لموعد غرامي تطلب اقناعها به تضافر جهود لساني وكل ما قرأت من كتب الفلسفة، اضافة الى تواطىء طقس امستردام معي ليسمح للشمس ان ترسل خيوطاً رفيعة من اشعتها الدافئة.

فيما انا انتظر، أطلت راكضة بكامل انوثتها، حتى ولو غرقت في الثياب من رأسها الى قدميها، تعجبت لبرهة كيف استطعت ان اميزها وهي مغطاة بالكامل كمحاربي النينجا، ثم انسلت الفكرة مني مع وصولها والقبلة التي طبعتها على وجهي.

في الطريق الى الساحة، انشغلنا بالحديث عن برودة الطقس وعن مدى شراهة زملاء العمل بتدخين الماريجوانا الشرعية مستغلين زيارتهم الى أمستردام، وعن حكايتي مع “السبايس كيك” التي تناولتها بالخطأ في أول يوم لي في المدينة، فكدت ان اطرد من العمل اذ لم استطع ان اتحكم بقهقهاتي المتواصلة خلال نهار طويل من الأجتماعات الجدية.

آيسون ناشطة نسوية متمردة، علمانية للعظم، تعشق اتاتورك، لا بل تقدسه، وتعتبره سبب نهضة المرأة التركية، بحركة سريعة سحبت يدها من جيب معطفي متخلية عن الدفء، واخرجت هاتفها المزين بصورة اتاتورك،  وابتسمت للصورة ومدت يدها وكأنها تمسد جبينه وتخاطبه، “احبك رغم انك لعنة على النساء”.

تنبهت بذكائها الى انزعاجي من تمتماتها واستغرابي من تناقضات كلامها، فكيف تموت النساء بسبب اتاتورك وهي تحمده على نهضة المرأة التركية؟. ضحكت آيسون، قالت اسمع. في الثمانينيات، حدث ان رجلاً قروياً ثرياً، تزوج بفتاة بسيطة لكن على قدر كبير من الجمال والثقافة، وحدث ان كان الرجل شديد الغيرة على زوجته اليافعة لجمالها وقدرتها على الكلام وهو الذي بالكاد يستطيع ان يقرأ، فكان يضيق عليها ويمنعها من الخروج، الى ان دخل عليها ذات يوم فوجد بين يديها صورة شاب في مثل عمرها، وسيم، يرتدي الهندام العسكري ويقف بشموخ وشباب يفتقده هو، فما كان منه إلا ان انهال على زوجته بالضرب ثم خنقها بالوسادة حتى لفظت انفاسها الأخيرة. عندما حضر رجال التحقيق، اعترف الرجل بقتل زوجته الخائنة، معللاً فعلته بالأنتقام لشرفه، وانه سيخرج من السجن يوماً ليقتل عشيقها مهما كلف الأمر. ولما رفع الشرطي صورة العشيق الشاب، وجد خلف الصورة جملة تقول “صورة مصطفى كمال بيه أتاتورك” بالزي العسكري ايام شبابه، تقدمة بلدية اسطنبول في الذكرى السابعة بعد المئة لولادة مؤسس تركيا الحديثة. هكذا كان، تقول آيسون، ذهبت الفتاة ضحية جهل زوجها.

لم تكن آيسون لتحمل اي ضغينة على أتاتورك، بل على مجتمعها الذكوري، على عليل يعتدي بالضرب على صديقته او زوجته، إما لفائض في التستوستيرون، وإما لعقدة دفينة في نفسه، لإنطوائيته، او خوفه من صغر حجم قضيبه الذكري، او لكثير من ثقافة السطوة والقوة الممزوجة بالجهل والتخلف كما حال القاتل في قصتها التركية، او حتى لغياب تشريعات وقوانين تحمي المرأة من العنف الأسري كما في واقعنا اللبناني.

بالأمس في بيروت تكررت المأساة، أزهق رجل روح زوجته الشابة، المؤكد انه لم يجد اي صورة، والأرجح انها لم ترتكب اي خطيئة، خطأ وحيد انها لم تهجر ربيب التستوستيرون، فيما الخطأ الأكبر ان لا اتاتورك علماني في لبنان ليشرع بأسم الأنسان والعدالة، بل ثلة من الأنذال تحاضر بالدين، وتبرر العنف والأغتصاب.

أنقطعت علاقتي بآيسون منذ سنوات، الى ان رأيتها مؤخراً في احدى الصور من ميدان تقسيم، تهتف بكل حزم، للحرية، للعدالة، للتحرر، لاتزال على جمالها، وأراهن ان صورة أتاتورك لا تزال في جيبها، افعلوا مثلها، انزلوا الى الساحات، لنصنع التغيير، ونكتب التشريعات، كي لا تقتلنا صورة اتاتورك.


Posted

in

, ,

by

Tags: