ارتشفت القطرات الاخيرة من فنجان القهوة، ورحت اهرول في الشارع متحدياً الصقيع، محاولاً الوصول الى المحطة لألحق بالمترو قبل ان يمتلئ حتى الشفة بطالبي العبور الى الجزيرة، كانت تلك عادتي اليومية منذ ان وصلت للدراسة في هذا البلد الكئيب، لم اصل يوماً على الوقت، اين السرفيس اللبناني ابو ألف ليرة (يومها) يوصلك حيثما تشاء دون حسبان للتوقيت المحدد بالثانية. هنا فقط تبدو الفوضى اللبنانية ذات منفعة.
بعد تأخير دام نصف ساعة وصلت اخيراً لألتحق بقاعة الدراسة، ولو استدعى الأمر توبيخاً من البروفيسير البرازيلي ذو اللكنة الغريبة، اذكر انني كنت اهمس لزميلي اللبناني ان “البروفيسير ماورو” يشبه ايلي الفرزلي في تصرفاته وطريقة كلامه وحتى في مغالاته في استنباط كلمات لم ادرك من قبل انها كانت موجودة في قواميس اللغة الأنكليزية.
البروفيسير ماورو برازيلي مهاجر، مدرس مادة علم النفس الأقتصادي، شخصية غريبة، كان يسمينا نحن طلابه “اشباه المثقفين الجدد”، لكثرة ما كنا نعترض ونجادله في نظرياته العلمية، لا طمعاً بالمعرفة، بل حباً بالجدال لأجل الجدال، وكان ذلك يثير غضبه فتحمر صلعته، ويزيد من انعقاف حاجبه المتصل، ويصرخ بصوت جهوري، كفوا عن التهريج…
على عادته لم يكن ماورو بمزاج جيد ، الا انني لم ارثي لحالي واتوقف عن التهريج، وانا المتأخر نصف ساعة كاملة، شرع الرجل يشرح عن سوسيولوجيا الهجرة، وتأثيرها على البناء السكاني وكيف ينعكس الأمر سلباً وايجاباً على البلد الذي تغادره الأدمغة والسواعد الفتية، ولما وصل الى حكايا الهجرة الى البرازيل، اتى على ذكر قرية حردين اللبنانية التي فرغت من شبابها خلال شهرين ، بعدما هاجروا جميعاً الى البرازيل والأرجنتين. وطفق يسترسل مستجلباً الشعر والقصص ليخبرنا كيف ان اهل حردين اسسوا مجتمعاَ خاصاً بهم في البرازيل، وروى كيف ان اللبنانيين جلبوا معهم حضارتهم الى البرازيل ولبننوا المنطقة التي سكنوها. ثم انغمس في قصصه مجدداً ليخبرنا كيف ان الحردون في لبنان، حين يرى افعى تحاول ابتلاعه، يركض الى عود من غصن، ويقبض عليه بفمه من وسطه، فيستحيل على الأفعى ان تبتلعه، فينجو منها بعود الخلاص هذا، ثم نظر ماورو اليّ والى زميلي، واستتبع القصة بالقول، ان البرازيليين يقولون ان المهاجرين اللبنانيين علموا حرادين البرازيل تلك الحيلة لشدة براعتهم في التجارة والتسويق.
علا ضجيج الضحك في القاعة، فأعتبرتها وصديقي اهانة، وقفت متهماً الرجل بالعنصرية، مترافعاً ضد صيت النصب الذي يلازم اللبنانيين، معللاً ذلك بأن موقع لبنان وتاريخه الفينيفي هو ما جعل سكانه يجنحون الى التجارة والتسويق، وختمت المطالعة بأننا شعب ذكي ومتفوق ومجتهد، واننا قد علمنا البرازيليين الكثير، وان حكاية الحردون البرازيلي وعود الخلاص ملفقة بلا شك.
جلست في مكاني فخور بما فعلت وسط تصفيق وصفير الأصدقاء، اشاح الرجل بناظريه وصمت لبرهة اعتبرتها انتصاراً، عاد لينظر الي والى الضحكة التي ملأت فمي، قال “اسمع ايها المتذاكي، عد الى بلدك، وقل لشعبك المجتهد والمتفوق ان يبحث له عن عود خلاص، قبل ان تبتلعكم الأفعى”
ها انا بعد ست سنوات من الواقعة انفذ الوصية، ابحث عن عود خلاص اسمه دولة القانون والمؤسسات، امسكه بالعرض، كي لا تبتلعني افعى النظام الطائفي، شكراً بروفيسير ماورو، و عذراً على المقاطعة.
اترك تعليقاً