ابان الحرب العالمية الأولى، توفي خوري الرعية في احدى قرى الجنوب، ولما لم تفلح مراسلات اهل القرية في اقناع كرسي البطريركية لأيفاد بديل من بيروت، خلع الأستاذ الياس بذة معلم المدرسة، ولبس عباءة الخورنة واصبح خوري يحل ويربط ويرأس القداس، بعد ذلك بسنة كاملة حضر الخوري الموفد من بيروت، لكنه لم يفلح في اقناع الناس ان يتركوا قداس الياس ويتبعوه، ولما سأل عن السبب اجابوه “ما منحب وجع الراس، حسب السوق، منسوق”.
حقيقة الأمر ان في القصة تلخيص للحالة السيكولوجية لأغلب اللبنانيين، لا يحبون وجع الراس، ولا التفكير العميق، من هنا كان من الطبيعي جداً ان يطفو الى السطح ثلة من الأنتهازيين وتجار الدم والدين، لينصبوا انفسهم خوارنة وشيوخ البلاد والعباد، يتحكمون بأصغر التفاصيل، يفكرون ويسيرون السوق كما يريدون.
ليست العلة دائماً في هؤلاء التجار وحدهم، اصل البلاء في من ينصبهم ويضفي عليهم هالة القداسة والزعامة المطلقة، هات فلنفكر فيها، كم منا لديه حس النقد بدلاً عن التبعية؟
هات فلنحسبها بالأسماء، اتذكرون كيف وقف وليد جنبلاط خطيباً يوم 14 آذار؟ اتذكرون كيف صدح صوته قائلاً لبشار الأسد “يا حوتاً لفظته البحار، يا قرداً لم تعرفه الطبيعة…” ليعود بعدها بأشهر قليلة ليلتحق بركب ذات القرد مسمياً اياه سيادة الرئيس؟ كم من مرة ترنح جنبلاط منذ ذلك الوقت بين القرد والرئيس؟ كنت كلما التقيت بمسؤول طلاب حزب جنبلاط وهو المفترض ان يكون فهيم قومه، كان يجيب بأن البيك أدرى بالمصلحة العليا للطائفة، حسناً دعك منه، تذكرون خصومة الحريري مع سوريا؟ هل حاسبه جمهوره يوم طار الى سوريا بعد تشكيل حكومته الأولى ليعلن ان اتهامه لسوريا كان اتهاماً سياسياً، ثم يعود لينقلب الى سابق عهده؟ هل شهد تيار المستقبل استقالات جماعية؟ او هل هتف جمهوره بشيء سوى “سعد، سعد سعد”؟ دعك منه ايضاً، ماذا عن ميشال عون الذي خاض حرب التحرير وانتهى منفياً في فرنسا يهيم حاملاً اوراقه منادياً بالسيادة والاستقلال ومقدماً شهادة في قلب الكونغرس الأميريكي عن مشروع محاسبة سوريا، ناهيك عن مطالبته بالمخفيين قسراً، ماذا حل بجمهور ميشال عون يوم عاد ليقبل جبين الأسد؟ هل تناقصت اعداده؟ ماذا عن حركة امل وحزب الله؟ ماذا عن داوود داوود ومعارك الضاحية واقليم التفاح؟ هل سأل أحد؟ ام ان من مات فيها ايضاً من ركب الشهداء الأطهار؟ هل في حزب الله من سأل زعيمه كيف يتهم جماعة 14 آذار بالتآمر والخيانة العظمى والتنسيق مع العدو، ثم يؤلف معهم حكومة وفاق (او نفاق) وطني؟ هل يضع السيد يده بيد الصهاينة؟ ماذا عن الياس المر؟ من كان وزير الدفاع يومي 7 و 9 آب؟ بات اليوم في خندق السياديين؟ هم كثر، كلهم دونما ابسط إستثناء، اين جمهور تلك الأحزاب من المساءلة على المواقف؟ اين البرامج التي يوالون تلك الأحزاب بناء عليها؟ ام ان الولاء أعمى؟ هل هي جماهير مقتنعة؟ ام انتماءات مقنعة؟
الأمر لا ينحصر بالسياسة، هي علة في قلب المجتمع، خذ عندك، البطل الهمام زياد الرحباني، صم آذاننا بسوليدير وصك البراءة الذي قد يعطى لها اذا غنى في حفل يقام على ارضها، وصل الرجل لأن يشبهها بالمستعمرة (وهي قد تكون كذلك على فكرة)، ليعود ويغني هناك بالأمس، في قلب اسواق بيروت، لا بل ويتقمص اهل السياسة، ويعطي للحفل اسماً لم يفهمه احد، وما هم؟ لا ضرورة للفهم، سيصفقون في اي حال، هم كما حال مسؤول الطلاب الاشتراكيين، البيك زياد يفهم اكثر منهم، يعرف متى يعطي صك البراءة ومتى يحجبه، هو افهم بمصالح “الطائفة الزيادية” حتى لو لم يفهموا لا نكاته السمجة، ولا عنوان حفله، سيصفقون، كما صفقوا لغيره.
ايعقل ان يكون داء الأستغنام قد اصاب الأغلبية الساحقة؟ ايعقل ان 4 ملايين شخص يعيشون على مساحة بضعة آلاف من الكيلومترات، لم يخرج منهم احد ليقول لا في العلن؟ كيف يكون المستغنمين أكثرية؟!
هنا اصل البلاء، العائق امام التغيير، شعب حسب السوق، بيسوق.
اترك تعليقاً