كان لكل مرحلة دراسية “بعبعها” الخاص، أذكر انه في مرحلة الصفوف الأولى كنت ابول على نفسي يوم تدخل “مس رشا” وهي سيدة ضخمة، لها صوت أجش، وحجمها كبير مقارنة بالكبار، فكيف إن قسناها على الصغار؟ بعد ذلك انتقلت الى المرحلة الإبتدائية وكنت كلما ارتقيت صفاً، اتوجس خيفة من ان اصل الى الصف الخامس حيث ستلاقيني “ميس فيرا”، وفيرا هذه سيدة ذات طباع حادة، تحمل قضيباً رفيعاً من الخيزران، كثيراً ما نال من اجساد الأطفال وترك على أجسادهم النحيلة علامات فارقة.
كان صفي المفضل هو التاريخ، مع ان الكتاب كان ابتراً وبنتهي بأمثولة “تربيح الجميلة” عن توحد حزبي النجادة والكتائب في حزب واحد للعمل ضد الإنتداب، فأستحى الفرنسي على دمه، و “ضبضب كلاكيشه” ورحل. غير اني وبصراحة لم اصدق هذه الأهازيج، لأن الكتائب والنجادة لو لم يفعلوا ذلك لكان المحتل الفرنسي بذاته قد بصق عليهم، وأرتأى ان يرحل طوعاً عن شعب بلا أخلاق ولا ضمير.
بالرغم من ان كتاب التاريخ الأبتر، لم يأت على ذكر الحرب اللبنانية مع اننا جميعاً في تلك المرحلة كنا من مواليدها، لأن أربابها لايزالون في مواقعهم، لا بل أكثر، كانوا ميليشيات طائفية، وباتوا ميليشيات رسمية، تستلم إدارات ووزارات بل دفة الأمة ككل. هؤلاء على ذات السيرة من “الشفط والبلع” والمحسوبيات الطائفية، كما بدأت الحرب فجأة، إنتهت فجأة، لا عدالة إنتقالية، ولا من يحاسب وكثر يحزنون. مع ذلك كنت افضل التاريخ على رعب حصة الحساب، حيث كانت فيرا تنال مني بالتحديد، وتشبعني صفعاً وركلاً بسبب علاماتي المتدنية التي بلغت في حدها الأفضل 60 من 100 وفي حدها الأدنى 40 من 100، لكنها كانت ستضرب في الحالتين عملاً بالقاعدة والتفويض الذي منحه لها ابي على مسمعي “اللحم الك والعظام النا”.
بالرغم من محاولات “ميس فيرا” المتكررة لثنيي عن قراءة التاريخ وتحليله، والتركيز على الحساب، بحجة انه يأخذ وقتي ويلهيني عما هو أهم وأعظم، الا انها لم تتمكن لا هي ولا غيرها من تغيير عاداتي، وحتى اليوم لا أزال، أكره الحساب، وأمعن في قراءة التاريخ وتحليل النصوص.

ثم أين هي فيرا اليوم؟! هاتوها!!! هاتوها لي، لتشهد على المصيبة، كانت تعايرني بكسلي في الحساب وعلاماتي المتدنية، وكانت تردد على مسامعي انني اخرق وفاشل لأنني لم ابذل اي جهد يذكر لتحسين وضعي، غير انها، اي فيرا، لم يكن في حسبانها انها ستعيش يوماً في بلد اقصى وافضل علامة حسابية يحصدها في تاريخه هي 28 من 100، ففي تقرير صادر عن منظمة الشفافية الدولية نال لبنان المركز 127 من اصل 177 على مؤشر مدركات الفساد العالمي، التقرير ذاته يشير الى ان القطاعات الأكثر فساداً هي الادارات العامة والنواب والوزراء والقطاع الخاص، اي ان نواب الأمة هم الأكثر فساداً فيها! يعيثون الخراب ويأكلون المقدرات، ويسهبون في تجريد اللبناني من حقوقه، ليكدسوا في المقابل جبالاً من الأموال في جيوبهم.
ثم تأتي المصيبة الكبرى، ما هو رد اللبناني على كل هذا؟ هل يبادر الى النزول الى الشارع لإسقاط هذه الطبقة السياسية؟ هل يجبرها على خوض الإنتخابات ليحاسبها؟ هل تجتاح الجماهير الهادرة المنشئات وتستعيدها؟ .. لا! جل ما يفعله اللبنانيون هو ببساطة تحقيق علامة أسوأ، تتلخص في إحتلال المركز السادس عالمياً في الخطف مقابل الحصول على الفدية متخطين بذلك كل البلدان الأخرى، تصوروا! اللبناني في المركز السادس عالمياً في نهش جلده الخاص، بدل ان ينهش عظام رجال السياسة والطائفة والدين.
أين هي فيرا اليوم؟! هاتوها لتشد كل الشعب من أذنه وتذيقه قضيب الخيزران، هاتوها إن كانت تستطيع ان تربي شعب الـ28 من 100، المستسلم للفساد، ولتحضر معها معلمة اللغة العربية التي اخافتني في المرحلة المتوسطة، ولتخبرها ان هذا الشعب مصر على ان يبقى مفعولاً به “منصوباً” ومجروراً، لا فاعلاً مرفوعاً…