لا أذكر اني دخلت ثكنة عسكرية او مقراً أمنياً إلا متأبطاً الخوف، وممسكاً بقلبي كي لا ينخلع من مكانه من سرعة النبض، وتكرر هذا المشهد على مدى السنوات الماضية، إما بفعل لساني السليط على الطبقة السياسية كلها، او لحضور تحقيق في دعوى اقامها ضدي احد الفاسدين الممتعضين. ومهما بدوت متماسكاً وقوياً ومتمسكاً بحقي، يبقى للمقار الأمنية هيبة ليتها تنسحب على اللصوص وقطاع الطرق “السياسيين”.
لطالما تواجهنا كنشطاء حقوقيين ومدنيين مع القوى الأمنية، وهذا امر بديهي ويحدث في كل بلاد العالم لطبيعة النشاط الذي نمارسه، وطبيعة الوظيفة التي تقوم بها القوى الأمنية مستندة (مجبرة احياناً) الى تشريعات وقوانين مفترض ان الدهر قد اكل عليها وشرب، خاصة ان يد المشرع اللبناني قد باتت متساهلة جداً في نص ما يختص بواجبات المواطن، وثقيلة جداً في تشريع ما يحمي حقوقه.

في ظل كل هذا، خرج الى السطح حساب على موقع تويتر لغرفة التحكم المروري، وكحال الأغلبية لم اعره اهتماماً في بداية الأمر وادرجته في خانة المحاولات الفاشلة لأجهزة الدولة اللبنانية في اللحاق بركب التكنولوجيا، غير ان التفاعل الذي كان يحظى به الحساب دفعني الى مراقبته بأستمرار، حتى بت لا اخرج من المنزل دون ان القي نظرة على آخر التحديثات والصور التي ينشرها. خاصة كوني اعمل في مجال المناصرة الالكترونية، كان تطور القائمين عليه لافتاً من حيث الاستراتيجية التي يستخدمها الحساب للتواصل مع المواطنين وسرعة نموه. وببحث سريع تبين ان غرفة التحكم المروري سبقت بأسابيع كبرى الغرف المرورية في العالم، من ضمنها تلك المزودة بأفضل المعدات والتكنولوجيا والانترنت السريع في استعمال شبكات التواصل الاجتماعي للتوعية على السلامة المرورية، اضافة الى ابقاء المواطن على إطلاع دائم على حالة الطرقات وضغط السير.
بعد الاتصال بمدير الحساب، وهو النقيب ميشال مطران، دعاني الى ان احاضر في مبنى هيئة ادارة السير، وهو بالفعل منعطف تاريخي في تاريخ علاقتي مع القوى الأمنية اللبنانية بشكل خاص، واجهزة الدولة اللبنانية بشكل عام، وهكذا كان، وتم الاتفاق بعد الندوة ان اتطوع للقيام بسلسلة تدريبات للعناصر تهدف الى تحسين مهاراتهم في نشر التوعية على السلامة المرورية عبر استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، اضافة الى استعمال بعض من التقنيات والبرمجيات الحديثة والمفتوحة المصدر كي لا تتكلف الدولة اللبنانية بدفع ولو قرشاً واحداً.
في الحقيقة ان فكرة وجود ضابط شاب، يتعامل مع المواطن من دون الفوقية والاستعلاء المعتاد للأجهزة الأمنية كان امراً لافتاً، اضافة الى كون النقيب مطران رجلا مناسباً في المكان المناسب، يحمل اجازات جامعية في ميدان اختصاصه، ولا اخفيكم سراً انني بدأت بغرابة استسيغ فكرة التعاون مع القوى الأمنية عوضاً عن مجابهتها، فاسلوب المواجهة مرده الى غياب الثقة المتبادلة بين الأمنيين والمواطنين، مدعم بإرث كبير من الانتهاكات والممارسات الخاطئة التي لطالما اشرت اليها في مدونتي.
نجحت غرفة التحكم المروري بفعل نشاط وتفاني النقيب مطران في ان تكون سبباً في إنقاذ حياة العديد من اللبنانيين، والقيام بحملات توعية للمواطنين على مبادىء السلامة المرورية، وان تحل ضيفاً يومياً على نشرات الأخبار والجرائد والمواقع الإخبارية، ولا ابالغ ان قلت انها كانت قاب قوسين او ادنى من ان تكسر حاجز اللاثقة بين المواطن وشرطي المرور و”كليشيه صائد الرشاوى”. وما عليكم سوى الرجوع الى الحملات التي اطلقتها غرفة التحكم المروري لرؤية التفاعل الهائل الذي ابداه المواطنين مع تغريداتها. وكنت قد اشرت الى هذه المفارقة في تقرير مصور اعده البنك الدولي هذا العام عن مدى تأثير الانترنت السريع في عملية التنمية في الشرق الأوسط.
كان لابد من أن ان يثير هذا النجاح الباهر حفيظة البعض، وكان لابد ايضاً للحسابات الشخصية والزواريب السياسية ان تكون جزءأ من المشكلة، وأبت إلا ان تبعد النقيب مطران عن مركز عمله متذرعة بالمناقلات الروتينبة داخل قوى الأمن الداخلي، هكذا كان، اقصي النقيب مطران عن غرفة التحكم المروري، واستبدل بضابط آخر.
في الحقيقة ان بركان الإعتراض الذي تفجر على التويتر فور شيوع الخبر، دفع بقوى الأمن الداخلي الى الاشارة ان الأمر إجراء روتيني، وان النقيب سيكلف بمهمة أخرى تتعلق بالسلامة المرورية ايضاً، غير ان هذا التبرير غير مقنع بتاتاً ويخالف القانون اساساً، اذ ان هيئة ادارة السير هي هيئة مستقلة تتبع إدارياً لوزارة الداخلية، والقرار الصادر عن مدير عام قوى الأمن بنقل النقيب مطران ليس من صلاحياته، بل هو من صلاحيات وزير الداخلية وحده.
بالمطلق، ليس الهدف من التدوينة الدفاع عن النقيب مطران بشخصه، بل قد يكون هو نفسه من اول المتضررين من هذه السطور، اذ انه عسكري ملتزم بتعاليم أمنية صارمة، والقضية ستتفاعل اعلامياً رغماً عنه، وسببت وستسبب إحراجاً كبيراً لقوى الأمن واصحاب الرتب الرفيعة فيها.
ايها السادة، لطالما حلمنا وناضلنا وطالبنا بدولة حديثة، وإدارات تسيرها الكفاءات لا المحسوبيات، ولا المحاصصة الطائفية والحزبية والمناطقية، مجدداً، الأمر لا يتعلق بالنقيب ميشال مطران كشخص، السؤال هنا هو لماذا؟
لماذا يبعد ضابط كفوء عن مركز عمله عمداً؟
لماذا عندما نؤمن ونشارك وننجح كمواطنين وأمنيين في التفاعل والتكامل حضارياً يتم مجابهتنا بالواقع اللبناني المرير؟
لماذا يراد لنموذج الزواريب السياسية والشخصية والفساد ان يكون هو الفيصل، عوضاً عن نموذج المشاركة مع المجتمع المدني؟
لماذا تريدون لنا ان نعود الى نغمة “شتم الدولة” التي اعتدنا عليها عوضاً عن مديح انجازانها (إن وجدت)؟
لماذا ولمصلحة من اصدرتم قراراً جائراً بإعدام هذه التجربة الناجحة الوحيدة؟
اسئلة كثيرة اعمق بحاجة الى إجابات، والمؤكد ان قوى الامن الداخلي لا تتراجع عن قراراتها تحت وقع الغضب الالكتروني والتدوينات والتغريدات، والمؤكد ايضاً ان بارقة الأمل الوحيدة التي بثتها غرفة التحكم المروري بفعل جهود النقيب مطران وعناصره قد انطفأت، ومعها خمدت نهائياً روح التعاون التي ابداها النشطاء والمغردين.
ثم وبالمناسبة: من مدون هذه السطور، الى السادة اصحاب الرتب الرفيعة في قيادة قوى الأمن الداخلي، اهديكم استقالتي من منصبي التطوعي كعضو في المجلس الوطني للسلامة المرورية في لبنان، وما هم؟ فعجلات محسوبياتكم قد داستنا جميعاً.
اترك تعليقاً