ثمة نكتة تعود للعهود الشيوعية، تقول إن شاباً ألمانياً ذهب للعمل والدراسة في صربيا، وكان الشاب يعلم مسبقاً أن البريد السوفياتي مراقب بصرامة، لذا اتفق مع رفاقه أن يكتب لهم بالحبر الأزرق أن كان كل شيء طبيعياً، أما إن كتب بالأحمر فمضمون رسالته زائف ومشفر، بعد وصوله بأشهر بعث برسالة إلى الأصدقاء في ألمانيا، فتجمهروا حولها وفتحوها بلهفة شديدة، فخاب أملهم لما وجدوها بالأزرق الطبيعي، ومع ذلك شرعوا بقراءتها… “كل شيء جميل هنا، المخازن ممتلئة بالأطعمة الجيدة، مسارح العرض تعرض أفلاماً غربية جيدة، الشقق واسعة وفخمة وفيها تدفئة مقبولة، الشيء الوحيد الذي ليس بإمكانك شراؤه في هذه المدينة هو الحبر الأحمر”…
أخذتني نوبة هستيرية من الضحك، وقد سرحت فيما كنت سأكتب لو كنت صاحب الفكرة، لساعات طوال الليل كنت أقهقه كلما خرجت بسيناريو أحمر مكتوب بالحبر الأزرق، حتى عقدت العزم على أن أراسل أصدقائي في المهجر… إلى أصدقائي في كندا وأميركا والبرازيل والخليج وسائر بلاد الانتشار اللبناني.
تحية طيبة.. وبعد
أكتب إليكم من لبنان، بلد المحبة والتسامح والديمقراطية والحرية المطلقة، أنا في أحسن حال هنا، أحس بالأمان الشديد، لا خوف عليّ أبداً، ولا ينقصني شيئا، كل شيء متوفر، الماء، والغاز، والوقود، والكهرباء، والرعاية الصحية وكلها بأبخس الأثمان.
الوظائف هنا كثيرة، لكن مقياس الحصول عليها هو الكفاءة لا شيء آخر، الرواتب في لبنان مرتفعة للغاية، حتى لو أسرفت إلى حد الجنون، سيبقى راتبك في جيبك وكأنه ينجب ويتكاثر، الشعب هنا مضياف كريم، يعامل الأجانب بعدل وإنصاف ويمنحهم حقوقهم الإنسانية كلها، لا ينتقص منها شيئاً، يمكنك أن تكتب وتعبر كيفما تشاء، لن يتعرض لك أحد، الاختلاف في الآراء يعالج بالطرق الودية والحبية، خاصة أن الابتسامة تعلو كل الوجوه في كل الأوقات.
تصوروا أن السوريين ورغم رغد العيش الآمن في سوريا يأتون طوعاً إلى لبنان للتنعم بحسن الضيافة اللبناني، يعيشون بين اللبنانيين في قصور وشقق فخمة وواسعة تطل على البحر وعلى الحدائق العامة الغنّاء.
الحكام هنا عادلون، والشعب يعبدهم (حرفياً)، ومن فرط حبه لهم طالبهم بإلغاء الانتخابات ليمددوا لأنفسهم، لأنه من المستحيل أن يأتي بغيرهم، الديمقراطية بدعة قديمة، هنا اخترعوا التمديد كإحدى أحدث نظريات الولاء الجماهيري.
أحدثكم عن أهل السياسة، وعن أكفهم البيضاء النظيفة المنزهة عن الخطأ، وكأنهم قديسون وملائكة، يااااه لو تعلمون كم هم حريصون على هيبة الدولة واستقلاليتها وعلى مؤسساتها، حتى أنهم كي يريحوا العسكر من عناء السهر قام كل زعيم بإنشاء تنظيم يسهر على آمن الناس، وعناصره يمكن تمييزهم بسهولة، فهم يلبسون الأبيض، ويمسكون بورود حمراء نضرة في أيديهم.
من النعيم اللبناني، أعاتبكم يا أصدقائي على اختياركم الهجرة، لقد أضعتم الكثير، وتركتم ورائكم جنة الله على الأرض.
اترك تعليقاً