حلاوة الحرب وعلقم السلم

أربعون عاماً مرت على “بوسطة” 13 نيسان 1975، الحادثة التي يؤرخ فيها اللبنانيون بداية حربهم الأهلية. الحادثة التي لا تعدو كونها جزءاً يسيراً من مشوار الهبوط الى القاع، حُمِّلت أكثر ممّا حَملت من معانٍ. فلا هي كانت البداية، ولا مأساة قتلاها كانت أعظم من مأساة 150 ألف قتيل و20 ألف مفقود، وألوف المعوّقين والمتضررين نفسياً ومعنوياً ومادياً من حرب فاضت فيها الكراهية إلى حدّ الذبح على الهوية.

يبدو نهار 13 نيسان بذاته تفصيلاً بسيطاً احتاجه من كتب تاريخ الحرب المبتور ليعلن عن قيامها علناً، بدل أن تكون حروباً صغيرة مستترة، كون الحاجة للّجوء الى السلاح قد أمست ملحّة لأن سوقه السرّي قد أتخم، ففاض وخرج الى العلن.

تكمن الأسباب الحقيقية لحرب لبنان في تفاصيل إقليمية، وتوازنات دولية، وأحلاف قارّية، وأبعاد جغرافية وسياسية، إضافة إلى القليل من القضايا الإجتماعية (نعاني أسوأ منها اليوم بالمناسبة) حتّمت على المرتبطين بمشاريعها في لبنان أن يحملوا السلاح، بيد أن بعدها الإقليمي لا يفسّر مقولة حرب الآخرين على أرضنا، كما تصفها نثريات الحنين الى ما قبلها، ولا خاضها اللبنانيون دون دراية بنتائجها، بل عن سابق تصوّر وتصميم، فجُلّها كانت مشاريع بقاء ووجود حتّمت الصدام المسلّح بين مشروعين وكتلتين كانتا أكثر قوة وتأثيراً من النظام اللبناني المترنح على هاوية ميثاق شفهي لم يخلق ليدوم طويلاً، بل ليعلل للعالم صوابية الانسلاخ عن الانتداب.

بعيداً عن حكايا الحرب وتفاصيلها، ونوستالجيا المبيت في الملاجئ، لا بدّ من التوقّف عند نهاياتها، والأسباب الاجتماعية والنفسية التي تدفع بغالبية من عاصرها لوصف أيامها بالحلوة رغم مرارتها، وماهيّة هذه المرارة التي نعيشها اليوم كلبنانيين حتى تبدو أيام الحرب ويوميّات الموت المجاني أمامها وكأنها وردية! هنا بيت القصيد، فقد خاض اللبنانيون حرباً يدركون تماماً أسباب انطلاقتها، لكن هل يدركون فعلاً أسباب توقفها؟ وهل انتهت وولّت هذه الحرب إلى غير رجعة؟ وهل إن ما أفرزته من تغيرات قادرة على حمل هيكل النظام أم أنّه سينهار من جديد؟

غاب – أو حريّ القول – غُيّب عن لبنان السلم تاريخ حربه الأهلية برمّتها، حتى أن تفاصيلها لم تُكتَب بشفافية ولو لمرة واحدة، فلا عرف الناس من قتلهم، ولا من خطفهم ولا من أدخلهم الأتون. وكما كان اللبناني يُهَجّر بفعل القصف حاملاً إسفنجة النوم، هُجِّر بالطريقة ذاتها من مربع الموت الى مربع الحياة، فاستعاض عن الإسفنجة بالكراهية المتوارثة، متاعاً لهجرته المستجدة.

الناظر الى لبنان ما بعد الحرب سيجد سريعاً الإجابات على الأسئلة أعلاه واضحة، تُعلِن عن نفسها كلّما مررنا بتجربة أمنية أو أدنى خضة اجتماعية أو اقتصادية، وأمام استحقاقات أبسط بكثير لا تتجاوز في بعض الأحيان إزالة كاميرا مراقبة، أو عزل ضابط من منصبه، أو محاولة بسط سلطة الدولة على مربعات “نيو-زعران” ما بعد الحرب.

الإجابات تكمن في ثقة اللبنانيين بنظام السلم المفترض، وإيمانهم بالدولة كمشروع جامع، وقدرتهم على التصديق أنّ حقوقهم مصانة بموجب قوانين مرعية الإجراء.

مسألة الثقة هذه أساسية، وهي ركيزة قيام مجتمع ونظام قادر على تخطي كل المصاعب، عوضاً عن ذلك لا تزال موروثات الحرب ومُوبقاتها سلاحاً تستعملُه أطياف الطبقة السياسية كلّما ناسبتها المناسبة في معرض المحاججة الإعلامية والتحريضية.

أغلب تجارب أنظمة ما بعد الصراعات اعتمدت في قيامها على العدالة الانتقالية سبيلاً لتحقيق الاستقرار وضمان ديمومته، وهذه العدالة المفترضة ليست بالضرورة محاكم تعليق المشانق (وقد تكون)، ولا معبراً نحو سجن أمراء الحرب السابقين الذين خلعوا بذات الحرب المرقطة ليلبسوا ربطات العنق الملونة، بل هي مجموعة من التدابير القضائية وغير القضائية لمعالجة إرث خمسة عشر عاماً من القتل والقصف المتبادل، ارتُكبت خلالها فظائع وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.

وهذه التدابير تبدأ أولاً بالتاريخ المبتور للحرب الذي تتغاضى عنه بصفاقة كتب التاريخ، أو تدوّنه بحسب هواها السياسي والحزبي الطائفي. إجراءات العدالة هذه من المفترض أن تبدأ بالقضاء الذي يستمع الى كل من شارك في الحرب ويحدد مسؤوليات كل من شارك فيها بحسب ما اقترف من جرائم، وقد يختار القضاء هنا العقاب او حتى العفو بحسب ما تقتضيه المصلحة الوطنية، وتستمر لتطلق برامج جبر الضرر بحيث تلتزم الدولة ومؤسساتها بتعويض من طالهم الضرر المادي او المعنوي جراء الإنتهاكات، إما عبر تقديمات مدفوعة، أو إعفاء من الضرائب لفترات محددة، او حتى احياء الذكرى بما يلائمها من عبارات تأبين لا مواربة فيها كعربون اعتذار من الدولة إما لمشاركتها في القمع، أو غضها الطرف عنه، فغض الطرف والمشاركة في الحرب سيان.

وهنا يدخل العامل الثالت وهو إصلاح المؤسسات وسد مكامن الثغرات والضعف فيها لضمان قوة النظام الجديد كي لا تتكرر المأساة، لتصل في النهاية الى العامل الرابع وهو لجان الحقيقة، هي اللجان المخولة إطلاع اللبنانيين جميعاً على كل ما خلصت اليه العملية الانتقالية، وحقيقة كل ما جرى خلال الحرب من خلال الاستماع الى المتضررين ومواجهة كل مرتكب بما فعل، وإصدار التوصيات علنًا نفهم فعلاً ماذا حصل، لنكتب تاريخاً حقيقياً يلائم حجم الموت والدمار.

من ناحية أخرى تبدو مقاربة نظام ميليشيات السلم اللبنانية لمعالجة ما ارتكبته يوم كانت ميليشيات حرب هزيلة للغاية، تأتي في صورة مطابقة لبدعة الديمقراطية التوافقية، فلجان القضاء اختارت العفو الكامل والشامل دون تحقيق، ثم عادت لتحاسب سمير جعجع وحده دونه الآخرين، وجبر الضرر أتى في صورة صناديق وزارة المهجرين المثقوبة التي تسرب منها المال للمحسوبيات والأزلام، ومن ثم إعادة إعمار وسط المدينة التجاري بصورة مشوهة راكمت الدين العام، أما إصلاح المؤسسات فعدا عن التعديل السخيف للدستور وتشويهات اتفاق الطائف لم يسجل لها أي إيجابيات، حتى انها ضاعفت من اهتراءها وفسادها وتقويضها عبر إدخال المنتفعين اليها، أما لجان الحقيقة اختصرتها مقولة عفى الله عما سلف! فترك أهالي المفقودين ليتسولوا المواعيد والوعود على أبواب المسؤولين من أمراء الحرب السابقين.

بمعزل عن الأسباب التي منعت قيام العدالة الإنتقالية التي تبدو الهيمنة السورية على نظام 1990 أبرزها، إلا أن غياب المقاربة الصحيحة أفرزت كل ما نلمسه اليوم من ضعف النظام اللبناني ومؤسساته، ومن تعطيل تام لمفاصل الحياة السياسية، وغياب الأسس الديمقراطية الصحيحة والحكم الصالح وسيادة القانون.

اليوم في 13 نيسان 2015، يلامس شبح البوسطة الكهل عامه الأربعين، ليذكّرنا في يوم ميلاده المفترض أنه وليد ما كان أكبر، وأن يوم ميلاده لا يؤرّخ سوى بداية المعركة في حرب لا تزال بأسبابها ونتائجها وافرازاتها مفتوحة على كل الاحتمالات، وبمضاعفات ولاعبين إقليميين أسوأ وأشرس يحيطون بهيكل السلم الهشّ الذي يكاد ينهار فوق رؤوسنا، من هنا ليس مستغرباً أن نجد من يرى في أيام الحرب حلاوة الماضي، وفي أيام السلم علقم المجهول.

 

نشرت في موقع NOW بمناسبة ذكرى الحرب الأهلية على هذا الرابط


by

Tags:

Comments

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *